وأما غوائل المال وشروره فتنقسم أيضاً إلى دينية ودنيوية: فأما الغوائل والشرور الدينية فهي ثلاثة كذلك: الأولى: أنه يجر إلى المعاصي غالباً؛ لأن كل معصية لها قوة، ولها سبل ووسائل، فإن تحققت القوة ووجدت السبل والوسائل كان المرء أسرع ما يكون إلى الوقوع في تلك المعصية، فلو أن إنساناً يملك مالاً وعرضت بغية من البغايا نفسها عليه وهو لا يستطيع أن يأتيها، وإن كانت السبل والوسائل قد توافرت فلن يقع في الفاحشة؛ لأنه لا يستطيع أن يأتي النساء، ولو كان شاباً فتياً معه المال وهو مليح الوجه فسيقع؛ لأن هذه الأسباب والوسائل إذا توافرت دفعته، إن لم يحجبه دين من الوقوع في تلك الرذيلة والفاحشة.
وفي النصف الثاني من رمضان جاء رجل إلى أحد المدرسين وقال له: ساعدني فأنا أحتاجك أشد الاحتياج، فقد كاد ابني ينحرف، فذهب ذلك المدرس -والنقل عنه مشافهة- معه إلى البيت وجلس مع الوالد وولده، ثم سأله عن حاله؟ قال: والله إن ولدي ظهرت عليه علامات الانحراف، فظن المدرس أنه يعبد الشيطان، فقال: لا، إنما له اهتمامات أخرى، له اهتمامات بالنساء، والولد في الصف الثامن الابتدائي، كما أنه يأتينا في وقت متأخر من الليل في غير حالته الطبيعية، فألهم الله صاحبنا أن يسأل الوالد كم تعطيه مصروفاً كل يوم؟ قال: أنا أعطيه بيدي مائتي جنيه كل يوم، ويأخذ من أمه أموالاً أخرى، كما أنه يذهب إلى شركاتي في منطقة (العاشر من رمضان) وفي منطقة (أكتوبر) ويأخذ المال، ويجوب البلد شرقاً وغرباً من (ستة أكتوبر) إلى (العاشر من رمضان).
فراتب الولد اليومي خمسمائة جنيه، فلماذا لا ينحرف؟ فقد أخذ الولد المال من أبيه، ولكنه وضعه في غير حقه، فلما كثر عليه المال أنفقه في غير طاعة الله عز وجل، فما كان من أخينا المدرس إلا أن قام وقال للوالد: أنت الذي أهملت ولدك، وعليك إصلاحه.
فإذا كان الولد يأكل يومياً ما يكدح به غيره شهراً فكيف لا ينحرف؟ ولذلك يقولون: الفقر حشمة، وفي كثير من الأحوال الفقر ينفع صاحبه، فربما لو وجد شخص القدرة على فعل ما يشتهي لهلك، وإن صبر لقي شدة في معالجة الصبر، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، فقد تفتن بالمال أعظم من فتنة الفقر.
الثانية: أن المال يدعو إلى التنعم في المباحات، فالذي معه مال فوق حاجته الضرورية يريد أن يشتري كل شيء تقع عينه عليه، فقد يكون عنده شقة فيها ثلاث غرف فيشتري ما يكفي عشر غرف؛ لأن المال فاض عنده، وعينه تشتهي قبل قلبه ويديه، فإذا نظرت عينه إلى شيء أراده، فهو متنعم ومترف في حياته، حتى يصير التنعم والرفاهية عادة له وإلفاً، فلا يصبر عنها، وربما لم يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة، ولو انقطع عنه هذا المال في يوم من الأيام فلن يستطيع أن يصبر على مر الجوع مرة أخرى، فلو أن رجلاً راتبه ألف جنيه في كل شهر، ثم خفض إلى خمسمائة جنيه لأصابه الشقاء، ولو أن رجلاً عاش ألف عام بخمسين جنيهاً ثم أعطيته في شهر ستين جنيهاً فسيشعر بفرحة ليس بعدها فرحة؛ لأنه في ازدياد، فهو يرفعه من مستوى أقل إلى مستوى أعلى، وأما الذي اعتاد على معدل إنفاق مرتفع فلن يستطيع أن ينزل عنه؛ لأنه كيّف حياته وهيأها على أن يعيش بهذا المال كل شهر، فهو لا يستطيع النزول عن ذلك، فلا بد أن تسول له نفسه الحصول على المال ولو عن طريق الشبهة أولاً، فإن استمرأ الحصول على المال المشتبه بين الحل والحرمة سهل عليه بعد ذلك أن يقع في الحرام الصريح؛ لأن استمراء الشبهات يؤدي إلى الوقوع في الحرام، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
الثالثة: وهي التي لا ينفك عنها أحد، أن كثرة المال تلهي عن ذكر الله تعالى، وهذا أمر يعلمه كل من معه مال، وهذا هو الداء العضال، فإن أصل العبادات ذكر الله تعالى والتفكر في جلاله وعظمته، وذلك يستدعي قلباً واعياً فارغاً، وصاحب المال قلبه ليس فارغاً في الغالب، فمثلاً الذي عنده أراض كثيرة جداً يمسي ويصبح مفكراً في خصومة الفلاحين، فهو يفكر كيف يتعامل مع الرعاة والفلاحين، ويفكر في محاسبتهم، وفي خيانتهم له، وفي منازعة شركاء الحدود والماء، وأعوان السلطان يفكرون في الخراج، والوزراء يفكرون في العمارة أو غير ذلك، وصاحب العمارة يفكر كل يوم في الإيجار، وفي كل شهر يقضي أياماً في محاسبة المتأخرين، ولا يتفرغ فيها لذكر الله، وربما نقر الفرائض نقراً.
وصاحب التجارة يمسي ويصبح وهو يفكر في خيانة شريكه، وتقصيره في العمل، وهل يسرقه أو لا؟ وهل كسب أم خسر؟ وفي حالة الكسب يفكر ماذا يصنع بالمال؟ وفي حالة الخسارة كيف يعوضها؟ فهو في شغل وتفكير دائم، فكثرة المال من أشد أضراره أنه يلهي عن ذكر الله تعالى، بل حتى لو وضع في دهليز البيت داخل حفرة عظيمة فإنه يفكر هل سيصل إليه الماء فيتلفه أم لا؟ وهل الذين أحضروا معه المال سينسون هذه المسألة أم لا؟ وهل الجن سيعرفون هذا الطريق أم لا يعرفونه؟ وهل يمكن أن يدل الجن الأنس عليه، ويحفرون عليه في الليل ويأخذونه؟ فمع أن المال مدفون وتحت يده ولا يعرف مكانه إلا الله ثم هو، فهو يشغل باله به