الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز واستغناء، وقد تعرض عمر بن عبد العزيز لاختبارات وامتحانات كثيرة جداً من أول ما تولى الخلافة، فقد كان من بيت كله رفاهية، والأمويون كانوا أصحاب أموال، وكانوا علية القوم، وهو منهم، فأرادوا أن يفتنوه بكل سبيل فلم يفلحوا، حتى عرضوا عليه المال والدنيا فأخذها منهم ووضعها في بيت المال، ثم لم يردها لهم.
وعندما تولى الخلافة قال لزوجته: الذي ذهب شيء والذي سوف يأتي شيء آخر، فقد صرنا في موضع المسئولية، فحياتنا حياة تقشف.
ولا شك أنه قد استفاد من سيرة جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان عمر بن الخطاب من أغنى قريش، ولكنه في عام الرمادة -عام الفقر والجدب- الذي نزل بالمسلمين كان يأكل دون الشبع رضي الله عنه، حتى كان يقول لبطنه إذا قرقرت وأحدثت صوتاً: قرقري أو لا تقرقري، فوالله لا تذوقي السمن حتى يطعمه أطفال المسلمين لأنه في موضع المسئولية، وحفيده كذلك كان في موضع المسئولية، فـ عمر بن عبد العزيز لم يستطع أحد فتنته بأي عرض من أعراض الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:(ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس).
فعلى المرء أن يعرف ما في القناعة من عز واستغناء، وقد كان الأعمش سليمان بن مهران الكوفي في ضرب من الفقر، وكانت توزع عليه الأموال فيدعها ولا يأخذها.
وكان الحارث بن أبي أسامة أحد المحدثين الكبار جداً، ولم يكن في زمانه أفقر منه، وكان عنده من البنات ست، ومع هذا الفقر كان لا يقبل هدية السلطان، فدخل عليه صاحب السلطان وألقى بصرة في كوة في البيت، فقال الحارث لبناته: لا تمدن أيديكن إليها، فبقيت هذه الصرة أياماً كثيرة حتى عاد ذلك الرجل إلى البيت مرة أخرى، فقال الحارث: والله لم تمتد يد إلى أمانتك، خذها وانصرف، قال صاحب المال: والله لقد أخذتها من بين خيوط العنكبوت.
ويقول الحارث بن أبي أسامة: وإن لي من البنات ستاً أصغرهن بلغت كذا وكذا من العمر، ولم يتزوجن لأجل الفقر، وليس عندي إلا ولد قد وضعت عليه كفني؛ انتظاراً للموت.
وأحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة لما رحل في طلب الحديث إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني في صنعاء انقطع عنه الزاد في الطريق فاشتغل حمالاً، يحمل للناس مقابل الأجر، فلما دخل صنعاء ولقي عبد الرزاق قال له: إنا أصحاب زراعة وإن الموسم قد حان وعندنا أموال، فخذ هذا وأنا آخذ هذا، فقال: والله لو قبلت عطية أحد لقبلت عطيتك.
وأحد المحدثين كاد أن يهلك من الجوع فأرسل إليه السلطان بمال فرده، فصاحت امرأته وأولاده من خلف الجدار: خذ المال، فلم يرد عليهم، وبعد أيام منّ الله عليهم بمال فأكلوا وشربوا، ثم قال: أنتم جوعى أم شبعتم؟ قالوا: شبعنا.
قال: ولو كنا أخذنا المال شبعنا أم جعنا؟ قالوا: شعبنا، قال: نحن في الحالتين إذاً شبعنا، وقد رددنا على السلطان هديته.