[الجهل داء وشفاؤه السؤال]
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجهل داءً، وجعل علاجه العلم والسؤال؛ لأنه المعاكس له، بل إن أعظم داء أن يعيش المرء ويرضى ويخضع بأن يعيش حياة الجهل والجهالة طيلة حياته ولا يتعلم، وقد أوجب الله تعالى على الجاهل أن يسأل، وأوجب على العالم بأن يجيب، فقال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:٧]، وأهل الذكر هم أهل العلم.
وقوله: {إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:٧]، أي: إن كنتم تجهلون، فهذه الآية فيها أمران: الأمر الأول للجاهل بأن يسأل، والأمر الثاني للعالم بأن يجيب، وهذه سنة الله تعالى في الخلق وفي الكون، وقد جرى عليها خلقه منذ أن خلق الله تعالى آدم إلى قيام الساعة، أن الجاهل دائماً يعلم أن حاجته وأن ملاذه عند العالم إذا ما حزبه أمر.
قال رحمه الله تعالى: [وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجهل داء، وجعل دواءه سؤال العلماء، فروى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه)]، أي: جرح في رأسه.
قال: (ثم احتلم) أي: أصابته الجنابة في ليله أو في نومه.
قال: (فسأل أصحابه) وهنا تشعر بأهمية طرح المسألة على العالم، فهذا الرجل رغم ما أصابه فإنه مأمور بأن يسأل أهل العلم.
قال: (فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟) أي: هل إذا تيممت خرجت مما أنا فيه؟ قال: (قالوا: ما نجد لك رخصة)، أي: ليس لك رخصة.
قالوا: (وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات)، أي: ما دمت تجد الماء فيجب عليك الغسل، وهذا الذي يعرفه العامة من أنه إذا وجد الماء بطل التيمم، وهذا الكلام وإن كان صحيحاً لكنه ناقص؛ لأن التيمم يجب عند فقد الماء كما يجب عند وجود الماء، كأن لا يقدر على استعماله، بأن يكون بينه وبين الماء عدو يخافه، فحينئذ جاز له التيمم، ومثله المحبوسون في السجن، فكثيراً ما يمنع عنهم الطعام والشراب والماء، ولو كان الهواء بأيديهم لمنعوه، ولكنها رحمة الله تعالى، وكذلك الرجل المريض يؤذيه استعمال الماء، ففي هذه الحالة يلزمه التيمم، وهذا الذي لا يعرفه كثير من الناس.
إذاً: التيمم واجب عند فقد الماء، أو عند وجود الماء وعدم القدرة على استعماله أي: عند عدم القدرة الحسية والمعنوية.
قال: (قالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات.
قال جابر: فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله) أي: تسببوا في قتله، ثم دعا عليهم عليه الصلاة والسلام، إذ قالوا على الله تعالى بغير علم، فكان ذلك سبباً في قتل صاحبهم، ولكن هذا القتل لا يقاد به القاتل؛ لحسن نيته وعمله بما يعلم.
(فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟) وهنا موطن الشاهد، أي: هلا سألوا إذ لم يعلموا، ثم قال: (إنما شفاء العي السؤال) والعي هو: الجهل، والعيي: هو الجاهل الذي لا يقدر أن يفصح عن مكنون نفسه، يقال: فلان عيي، أي: لا قدرة له على الكلام والإفصاح.
وقوله: (فإنما شفاء العي السؤال)، أي: إنما دواء الجاهل أن يسأل.
ثم قال: (إنما كان يكفيه)، وهذه الزيادة محل نظر عند أهل العلم، قال: (أن يتيمم ويعصر -أو يعصب- على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده)، وهذا باب آخر من أبواب الطهارة يورده العلماء تحت باب المسح على الجبيرة، فلو أن إنساناً كسر أو شج فربط على كسره بخرقة، ثم أصابته جنابة، وأراد يصلي فماذا عليه؟ قال بعضهم: إنما يكفيه التيمم.
وقال بعضهم: يغسل سائر أعضائه ويمسح على الجبيرة، وهذا أشهر الآراء عند العامة.
أما المذهب الراجح في هذه المسألة بغير تفصيل فهو الجمع بين التيمم والوضوء، أي: يتيمم من ربط الجبيرة على ذراعه، ثم يغسل سائر أعضائه ويمسح على الجبيرة، وهذا جمع بين المذهبين الأولين.