نهي السلف عن السؤال تعنتاً والسؤال عما لا ينفع
لكن لا يحل للسائل أن يسأل في كل ما عن له إلا أن يكون أمراً متعلقاً بالدين، وينبني عليه العمل في العقيدة والسلوك والأحكام والأخلاق وغير ذلك، وهناك أسئلة كثيرة جداً يسأل عنها العامة لا طائل من ورائها، ولا حاجة في طرحها، ومع هذا تجد الواحد منهم دائماً مشغولاً بتوجيه هذه الأسئلة، وإذا سأل واحداً لا يكتفي بذلك، بل يسأل الثاني والثالث والرابع، فتكون حياته كلها أسئلة، وليس من باب التعلم، وإنما من باب التعنت، ولذلك عندما كان السائل يسأل مالكاً رحمه الله يقول له مالك: يا فلان! اتق الله، سل تعلماً ولا تسأل تعنتاً، فيمتنعون عن الجواب حينئذ؛ لأن السائل ليس صادقاً في سؤاله، وإنما يسأل من باب إحراج الشيخ أو العالم أو إظهار جهله أو غير ذلك، فحينئذ يحرم على السائل أن يوجه سؤاله.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد علم الصحابة رضي الله عنهم أن يتوجهوا إليه بالسؤال كذلك ولا حرج، لكن لا يسألون في كل شيء، ولا يلحون في السؤال، ولذلك سأله رجل: (يا رسول الله! الحج كل عام؟ فسكت النبي عليه الصلاة والسلام، حتى قال في الثالثة: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتم)، أي: أن الشيء أو السؤال الذي تركتم فيه من أول مرة لا تعيدوا علي فيه السؤال، وإنما يكفيكم أني أعرضت عنه؛ لأنكم لو ألححتم علي فربما أجبتكم بما يشق عليكم، ويشق على الأمة كلها إلى يوم القيامة.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر -أي: البكر إذا زنى ببكر- جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ بن جبل: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
وقال: (يا معاذ! قلت: لبيك وسعديك، ثلاث مرات، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صادقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار.
فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: إذاً يتكلوا)، وما بشر بها معاذ إلا في آخر حياته تأثماً، أي: مخافة الإثم.
وعن سعيد بن المسيب قال: ما كان أحد من الناس يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
إذاً: يجوز للعالم المتمكن النحرير أن يقول للناس: سلوني.
وقال علي بن أبي طالب: فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، سلوني عن كتاب الله، فوالله ما منه آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار، بسهل أم بجبل.
فقام إليه ابن الكواء -وكان رجلاً من أهل البدع- فقال: يا علي! ما الذاريات ذرواً، فالحاملات وقراً، فالجاريات يسراً، فالمقسمات أمراً؟ يسأل تعنتاً لا يسأل للتعليم، فقال علي: ويلك، سل تفقهاً ولا تسل تعنتاً، ومع هذا فالذاريات ذرواً هي الرياح، والحملات وقراً هي السحاب، والجاريات يسراً هي السفن، والمقسمات أمراً هي الملائكة.
قال: أفرأيت السواد الذي في القمر ما هو؟! وما يضرك لو أنك جهلت هذا؟ هل سيسألك الله عز وجل عنه يوم القيامة؟ وهل ينبني عليه جنة ونار في الآخرة؟ وهل ينبني عليه عمل في الدنيا؟ أبداً، ومثله من يبحث عن اسم أم موسى عليه السلام، مع أن جهله بذلك لا يضر، وليس مطالباً به، لكنه يشغل نفسه بالليل والنهار، وكذلك من يسأل عن اسم كلب أهل الكهف، مع أنه غير مطالب أن يعرف أسماء أشخاص أهل الكهف فضلاً عن اسم كلبهم، فهذا الرجل إنما شغل نفسه بما لا طائل تحته، فينبغي عليه أن يرجع إلى رشده.
قال: أفرأيت السواد الذي في القمر؟ قال -أي: علي بن أبي طالب -: أعمى سأل عن عمياء، أي: أنت أعمى البصر: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦].
ثم قال: أما سمعت قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء:١٢]، فمحوه هو السواد الذي فيه.
ومع هذا أجابه، لكن بين له أن هذا من الأمور التي لا ينبغي ولا يجوز السؤال عنها.
قال: أفرأيت ذا القرنين أنبياً كان أم ملكاً؟ قال: ليس بنبي ولا ملك، ولكنه كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه الله، وناصح الله فناصحه الله، دعا قومه إلى الهدى فضربوه على قرنه -والقرن هو جهة الرأس- ثم دعاهم إلى الهدى مرة أخرى فضربوه على قرنه الآخر.
ولم يكن له قرنان كقرني الثور كما يتوهم بعض الناس.
قال: أفرأيت هذا القوس ما هو؟ قال: هي علامة بين نوح وبين ربه، وأمان من الغرق.
عن ابن أبي مليكة قال: دخلنا على ابن عباس فقال: سلوني فإني قد أصبحت طيبة نفسي، أخبرت أن الكوكب ذا الذنب اطلع، فخشيت أن يكون