للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[موقف القلة القليلة الذين مع طالوت من جالوت وجنوده]

بعد أن عبر طالوت النهر بهذه القلة القليلة التي معه، إذا بـ جالوت أعظم الطغاة في زمانه يلقاهم في جيش كثير جداً أفزع القوم، ولذلك اعتذر أصحاب طالوت فقالوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:٢٤٩] يعني: يا طالوت، نحن نرجو أن تعبر بنا النهر مرة أخرى، ونحن قد كنا عبرنا معك النهر، فهذا دليل على صدقنا، ولكن هذا العدد لا قبل لنا به، فنحن نعتذر الآن، ونرجو ألا تخوض بنا المعركة.

{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٩] والظن هنا بمعنى: اليقين، ولا يكون اليقين إلا عند أهل العلم بكتاب الله، وبسنن الأنبياء، قال الذين يوقنون أنهم ملاقوا ربهم: أيها الجهال الأغبياء كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والنصر هو من عند الله عز وجل، نعم، العدة والعتاد والقوة والشجاعة هي من عدد الحرب، ولكن إذا أراد الله عز وجل أن ينصر فئة على فئة فلا راد لهذا النصر: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:٢٤٩].

في مثل هذا الموطن ينتصر المؤمنون على عدوهم؛ لأنهم آمنوا وتوكلوا على الله، فبسبب طاعتهم وإيمانهم بهذا النبي، واتباعهم لأوامر ملكهم وأميرهم في الجهاد لابد وأن النصر حليفهم أو الشهادة، ولذلك المؤمن يدور بين أمرين كلاهما حسن في ملاقاته للعدو: أن ينصره الله، فهذا مغنم عام، أو أن يقتل، فالشهادة.

وهذا هارون الرشيد رحمه الله تعالى الذي صوره المصورون أنه عربيد سكير قاتلهم الله أنى يؤفكون، صوروه بتصاوير شتى، ولكنه كان رجلاً صالحاً يحج عاماً ويغزو آخر، كان إذا أرسل سرية أرسل معها كتاباً إلى زعيم الشرك والكفر، يقول فيها: إني أرسلت إليك جيشاً هو أحرص على الموت حرصك أنت وجيشك على الحياة.

فما موقف هذا الملك من هذه الرسالة؟ هذه رسالة كفيلة بتدميره نفسياً قبل لقائه، ومن ذلك رسالته إلى ملك الروم قال فيها: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم إني أرسلت إليك جيشاً أوله عندك وآخره عندي، فالجواب ما ترى لا ما تسمع.

الله أكبر! كلمات جبارة قوية تزلزل قلوب الأعداء بغير لقاء.

وأما بلاد المسلمين اليوم فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا عقائد، ولا أحكام، ولا طاعة، ولا إيمان، ولا عز ولا نصر ولا تمكين ولا سؤدد، ولا شيء من مظاهر العز والنصر والتمكين، إنما كله ذل في ذل، وهوان في هوان، وخور وضعف ومهانة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:٢٤٩].

أي: معية الله عز وجل أعظم من كل معية، فثبات هذه الفئة المؤمنة أمام هذا الجيش العرمرم دليل على أنه عز وجل معها، ينزل الملائكة يقاتلون معهم ويثبتونهم، يثبتون الأقدام عند اللقاء، ويربطون الجأش.

كان عدد المسلمين في بدر يربو على الثلاثمائة شيئاً يسيراً في مقابلة ألف من صناديد أهل مكة، أتوه إلى بدر لمقاتلته، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن ينوي قتالاً مع استعدادهم ومع ما معهم من العدة والعتاد للقاء محمد عليه الصلاة والسلام وجيشه بغتة.

والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم عين اليقين أن النصر من عند الله عز وجل، ولذلك رفع يديه إلى السماء، وظل يدعو حتى سقط رداؤه الشريف من على كتفه عليه الصلاة والسلام، وكان يقول: (يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً).

فتناول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه الرداء فوضعه على كتفيه وهو يبكي، ويبشر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الله سيفي له ما وعده من النصر والتمكين، وكان الوعد قد نزل من قبل.

وانتصر المسلمون نصراً مؤزراً، فليست غزوة من الغزوات في تاريخ البشرية لها من الفوائد والأعاجيب كغزوة بدر، مع قلة الناس، ولكن الإيمان يزلزل الجبال، كان الواحد بأمة؛ ولذلك لما أخطأ أحدهم بعد ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)؛ بسبب ثباتهم في غزوة بدر، فقد ثبتوا وألحقوا الهزيمة المنكرة بأعداء الله ورسله.

أما حنين فكان عدد المسلمين كثيراً جداً، واغتروا بكثرتهم: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:٢٥].

وإليكم قصة هذا الذئب الذي دخل في سباق مع السلحفاة، فقال: أنام شيئاً، ثم أقوم فألحق السلحفاة وأسبقها، فكان كلما استيقظ من نومه قال: الوقت مبكر، أنام وقتاً آخر، ثم أدرك السلحفاة وأسبقها، فبقي الذئب نائماً حتى بلغت السلحفاة النهاية والهدف.

كذلك لا يحل لقائد أن

<<  <  ج: ص:  >  >>