والثاني: عِظَم التفاوت بينهما: وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البُرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد فالعجب منه أبعد.
قوله:«أَنْ جَاءَهُمْ» فيه سؤال، وهو: أنْ مع الفعل بتقدير المصدر ... تقول:«أُمِرْتُ بأَنْ أَقُومَ وأمرت بالقيام» ، وإذا كان كذلك فلم ترك الإتيان بما هو في معنى المصدر ما يجب ذكره عند الإتيان بالمصدر حيث جاز (أن تقول) : أمرت أَنْ أقومَ من غير باء، ولا يجوز أن تقول: أُمِرْتُ القِيَامَ بل لا بد من الباء ولذلك قال: عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ، ولا يجوز أن يقال: عَجبُوا مَجيئَهُ بل لا بد من قولك: عَجِبُوا مِنْ مَجِيئه} .
والجواب: أن قوله: أَنْ جَاءَهُمْ وإن كان في المعنى قائماً مَقَام المَصْدَر، لكنه في الصورة تقدير، وحروف التقدير كلها حروف جارَّة، والجارُّ لا يَدْخُل على الفعل فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقلّ من أن يجوز الدخول فجاز أن يقال: عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ، ولا يجوز: عجبوا مَجِيئَهُمْ؛ لعدم جواز إِدْخَال الحَرْف عَلَيْهِ.
قوله:«مِنْهُمْ» أي يعرفون نَسَبَهُ وصدقه وأَمَانَتَهُ، وهذا يصلح أن يكون مذكوراً لتقرير تَعَجُّبهمْ ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تَعَجبهم، أما وجه تقرير تعجبهم فلأنهم كانوا يقولون:{أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ}[القمر: ٢٤] و {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}[يس: ١٥] وذلك إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصه بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم؟ وأما تقدير الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم وظهر منه ما عجزوا عنه كلهم ومن بعدهم فكان يجب عليهم أن يقولوا: هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جِنْسنَا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحدٌ من خلاف جنْسهم، وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون: نحن لا نقدر على ذلك، لأن لكل نوع خاصيةً كما أن النّعامة تبلع النَّار، وابن آدم لا يقدر على ذلك.
قوله:{فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} قال الزمخشري: هذا تعجّبٌ آخرُ من أمر آخرَ، وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله:{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} فتعجبوا من كونه منذراً ومن وقوع الحَشْر، ويدل عليه قوله في أول «ص» : {وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ}[ص: ٤] وقال: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص: ٥] فذكر تعجبهم من أمرين. قال ابن الخطيب: والظاهر أن قولَهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر، لأن هناك ذكر: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ بعد الاستفهام الإنكاري فقال: {أَجَعَلَ