وقيل: يغشاها أنوار الله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما وصل إليها تجلّى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل الجبل دكًّا ولم تتحرك الشجرة، وخَرَّ موسى صَعِقاً ولم يتزلزل محمد. وقيل: أبهمه تعظيماً له. والْغشَيَانُ يكون بمعنى التغطية والسَّتْر ومنه الغَوَاشِي، ويكون بمعنى الإتيان، يقال: فُلَانٌ يَغْشَانِي كُلَّ وقت أي يأتِيني.
فصل
قال المارودي في معاني القرآن: قيل: لما اختيرت السدرةُ لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قال: لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظلٍّ مديدٍ، وطعمٍ لذيذٍ، ورائحة زكيةٍ فشابهت الإيمانَ الذي يجمع قولاً وعملاً ونيةً، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره.
وروى أبو الدرداء عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:«مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» وسئل أبو الدرداء عن معنى هذا الحديث فقال: هو مختصر بمعنى من قطع سدرة في فَلَاةٍ يستظل بها ابن السَّبيل والبهائم عبثاً وظُلْماً بغير حق يكون له فيها صوَّب الله رأسه في النار.
قوله:{مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} اللام في البصر يحتمل وجهين:
أحدهما: المعروف أي ما زاغ بصرُ محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وعلى هذا فقدم الزيغ لوجوه إن قيل: بأن الغَاشِيَ للسدرة هو الجرادُ والفَرَاشُ فمعناه لم يلتفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن مقصوده فيكون غَشَيَانُ الجراد والفراش ابتلاءً وامتحاناً لمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وإنْ قِيلَ إنّ الغاشي أنوار الله تعالى ففيه وجهان:
أحدهما: معناه لم يلتفت يَمْنَةً ويَسْرَةً بل اشتغل بمطالعتها.
والثاني: ما زاغ البصر بصَعْقَة، بخلاف موسى - «عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» فإنه قطع النظر وغشي عليه، ففي الأول بيان أدبِ محمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي الثاني بيان قُوَّتِهِ.
الوجه الثاني: لتعريف الجنس أي ما زاغ بَصَرُهُ أصلاً في ذلك الوضع لِعظمِ هَيْبَتِهِ.
فإن قيل: لو كان كذلك لقال: ما زاغ بصرٌ، فإنه أدل على العموم، لأن النكرة في مَعْرِضِ النفي تَعُمُّ.