هذا واجبٌ على التخيير، إن شاء صام، وَإِنْ شاء أعطى الفدية، وأَما صوم رمضان، فواجبٌ على العيين؛ فوجبَ أن يكون صَومُ هذه الأيام غير صوم رمضان.
القول الثاني وهو اختيارُ المحقِّقين، وبه قال ابنُ عبَّاس، والحسن، وأبو مُسلم أن المراد بهذه الأيَّام المعدُواتِ هو صومُ رمضان، لأَنَّهُ قال في أوَّل الآية الكريمة:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وهذا محتملٌ ليوم ويومين، وأيَّام، ثم بينه بقوله:{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فزال بعضً الاحتمال، ثم بَيَّنه بقوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن}[البقرة: ١٨٥] فعلى هذا التَّرتيب يمكنُ أَنْ نجعل الأيَّام المعدوداتٍ بعينها صومَ رمضان، وإذا أمكن ذلك، فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النَّسخ فيه؛ لأنَّ كل ذلك زيادةٌ لا يدلُّ عليها اللَّفظُ، وأَمَّا تمسُّكهم بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «صَوْمُ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ» ، فليس فيه أَنَّه نَسَخَ عنه، وعن أُمَّته كلَّ صوْمٍ، بل يجوز أَنَّه نَسَخَ كلَّ صوم وجَبَ في الشّرائع المتقدِّمة؛ فكما يصحُّ أن يكون بعض شرعه ناسخاً للبعض، فيجوز أن يكون شَرْعهُ ناسخاً لشَرع غيره.
سلَّمنا أَنَّ صومَ رمضان نسخ صوماً ثبت في شرعه، فلِمَ لا يجوز أن يكونَ نسخ صوماً وجب غَيْرَ هذه الأيام.
وأمَّا تمسُّكُهم بحكم المريضِ والمُسَافر وتكَرُّرِه فجوابُه: أَنَّ صوم رمضان كان في ابتداءِ الإسلام غير واجِبٍ، وكان التَّخيير فيه ثابتاً بين الصِّيام والفدية، لَّما رُخصَ للمسَافر الفطرُ، كان من الجائز أَنْ يصير الواجبُ عليه افدية، ويجوز أَنْ لا فديَة علَيْه، ولا قضاء؛ للمشقَّة. وإذا ان ذلك جائزاً، بيَّن تعالى أَنَّ إفطار المُسافِر والمريض في الحُكْم خلافُ [التخيير في المقيم؛ فإِنَّهُ يجبُ عليهما القَضَاء من عدَّةِ أيَّام أُخر، فلما نَسَخَ اللهُ تعالى ذلك التَّخييرَ عن] المقيم الصَّحيحِ، وأَلْزَمَهُ الصَّومَ حتماً، كان من الجائزِ أَنْ يظن أنَّ حكم الصَّوم، كمَّا انتقلَ عن التخيير إلى التَّضييق في حَقِّ المقيم الصَّحيح أن يتغيَّر حكمُ المريضِ والمسافر عن حكم الصَّحيح، كما كان قبل النَّسْخِ، فبيَّن تعالى في الآية الثَّانية: أنَّ حال المريض والمُسافر كحالها الأُولى لم يتغيَّر بالنَّسخ في حق المقيم الصَّحيح، فهذه هي الفائدةُ في الإعادة، وإنَّمَا تمسُّكُهم بأنَّ صَوْمَ هذه الأيَّام على التَّخير وصومَ رمضانَ واجِبٌ على التَّعيين، فتقدَّم جوابهُ من أَنَّ رمضان كان واجِباً مخيَّراً، ثم صَارَ مُعَّيناً، وعلى كِلا القَوْلَين، فلا بُدَّ من تَطَرُّق النسخ إلى الأيَّام أمَّا على القول الأوَّل فظاهر، وأما على الثاني: فلأَنَّ هذه الآية تقتضي أن يكون صَوم رمضان واجباً مخيَّراً، والآية الكريمة التي بعدها تدُلُّ على التَّضييق؛ فكانت ناسخة للأولى.