مِنْ حيثُ إنَّها جمعٌ ما لا يعقلُ، وجَمْعُ ما لا يعقلُ يجوز أنْ يُعَامَلُ معاملةً الواحدة المؤنَّثة، ومعاملةَ جمع الإنَاثِ، فمن الأول {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى}[طه: ١٨] وفي الثاني هذه الآية اكريمة، ونظائرها، فإنما أوثر هنا معاملتُهُ معاملةَ الجمع؛ لأنه لو جيء به مُفْرَداً، فقيل:{عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخْرَى} لأهم أنَّه وصف فيفوت المقصُود.
فصل
ذهب بعضُ العلماء - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - إلى أنَّه يجبُ على المريض والمُسَافر: أن يُفْطِرا أوْ يصُوما عدَّة أَيامٍ أَخَرَ وهو قولُ ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وابن عمر، ونقل الخَطَّابيُّ في «أَعْلَام التَّنزيل» عن ابنِ عمر، أنَّه قال:«إنْ صَامَ في السَّفِرِ، قَضَى في الحَضَرِ» وهذا اختيار داود بنِ عليٍّ الأصفهانيِّ، وأكثر الفقهاءِ على أنَّ هذا الإفطار رخصةٌ، فإنْ شاء أفْطَر، وإن شاء صام.
حُجَّةُ الأوَّلين ما تقدَّم من القراءتين أنَّا إن قرأنا «عِدَّةً» ، فالتقديرُ:«فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» والأمر للوجوب، وأنا إن قرأنا بالرَّفع، فالتقديرُ:«فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ» وكلمة «عَلَى» للوجوب، وإذا كان ظاهرُ القُرآن الكريم يقتضي إيجابَ صَوْم أيامٍ أُخَرَ، فوجب أَنْ يكُونَ فطرُ هذه الأيامِ واجباً؛ ضرورةَ أنَّ لا قائل بالجمع.
وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ولا يقالُ: هذا الخَبَر ورد على سَبَبٍ خاصٍّ، وهو أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ، جَلسَ تحت مِظلَّةٍ، فَسَأَلَ عَنهُ، فقالُوا: هذا صائِمٌ أجْهَدَهُ العطَشُ، فَقال:«لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ، فإنا نقولُ: العِبرة بعُمُوم اللَّفظ لا بخُصُوص السَّبَبِ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «الصَّائِمُ في السَّفر كالمُفطِرِ في الحَضَرِ»
وحجَّة الجمهور: أنَّ في هذه الآية إضماراً؛ لأنَّ التَّقدير:«فأَفْطَرَ فعدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» والإضمارُ في كلام الله تعالى جائزٌ؛ كما في قول الله تعالى:{اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت}[البقرة: ٦٠] ، أي:«فَضَرَبَ، فَانْفَجَرَتْ» ، وقوله