كان معلوم الوقوع، فلا فائدة باشتغالكم بإبطال الدُّعاء، وإن كان معلوم العدم، لم يكُنْ إلى إنكاركُم حاجة.
والجوابُ عن الثَّانية: علم الله تعالى وكيفيَّةُ قضائه وقدره غائبةٌ عن العُقُول والحكمة الإلهيَّة تقتضي أن يكُون العَبد معلَّقاً بين الرَّجاء والخَوف اللّذين بهما يتمُّ العبودية، ولهذا صَحَّحنا القَول بالتَّكاليف مع الاعرتاف بإحاطة علم الله تعالى بالكُلِّ وجريان قضائِهِ وقدره في الكُلِّ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - رسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: أرأيت أعمالنا هذه أشيء فرغَ منهُ، أم أمرٌ يستأنِفُهُ؟ فقال:«بَلْ أَمْرٌ فُرغَ مِنْهُ» فقالوا: فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ؟ قَالَ:«اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ» فانظُر إلى لطائف هذا الحديث، فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - علَّقهم بين أمرين، فرهَّبهم سابقَ القَدَر المفروغ منه، ثم ألزمهم العمل لاذي هو مدرجةُ التعبُّد، فلم يبطل ظاهر العَمَل بما يفيد من القضاء والقدر، ولم يترك أحد الأمرين للآخر، وأبخر أنَّ فائدة العمل هو المقدَّر المفروغُ، فقال:«كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» يريد أنَّه ميسَّر في أيَّام حياته للعَمَل الذي سَبَقَ له القَدَر قَبْل وجوده وكذا القولُ في باب الكسب والرِّزق فإنه مفروغٌ منه في الأصل لا يزيده الطَّلَبُ، ولا ينقصه التَّرك.
والجوابُ عن الثالث: أنه ليس المقصودُ من الدعاءُ الإعلام بالمطلوب، بل إظهار العُبُوديَّة والذلَّة والانكِسار والرُّجُوع إلى الله تعالى بالكُلِّيَّة.
والجواب عن الرابعة: أنه يجوزُ أنْ يصير ما ليسَ بمصلحَةٍ بحسب سَبق الدعاء.
والجواب عن الخامس: إذا كان مقصُوده من الدُّعاء إظهار الذلَّة والمسكنة، ثم بعده الرضا بما قدَّره الله تعالى وقاضه، فذلك من أعظم المقامات، وهذا الجوابُ أيضاً بقيَّة الشُّبَهِ.
فإن قيل: إنَّه تعالى قال {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، وقال هنا {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} ، وقال {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ}[النمل: ٦٢] ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدَّعَواتِ والتضرُّع، فلا يجاب.
فالجوابُ من وجوه:
أحدها: أن هذه الآيات، وإن كانت مطلقةً إلَاّ أنه وردت في آية أخرى مقيَّدة، وهو قوله تعالى:{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ}[الأنعام: ٤١] والمطلق يحمل على المقيَّد.