وثالثها: أنَّ قوله {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} يقتضي أنَّ الداعي عارفٌ بربِّه، ومِنْ صفاتِ الربِّ سبحانه وتعالى أنه لا يَفْعَلُ إلَاّ ما وافَقَ قضاءه وقدره، وعلمه وحكمته، فإذا علم العبدُ أنَّ صفة ربِّه هكذا، استحَالَ منه أن يقول بقلبه أو بعقله يا ربِّ، أفعل الشَّيء الفُلانِيَّ، بل لا بدَّ وأن يقول: أفعل هذا الفعل، إن كان موافقاً لقضائك وقدرك؛ وعند هذا يصيرُ الدُّعاء المجابُ مشروطاً بهذه الشرائط، فزال السؤال.
ورابها: أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة:
فقيل: الدعاء عبارةٌ عن: التوحيد والثَّناء على الله تعالى؛ لقول العبد يا الله الذي لا إله إلا أنتَ، فدعَوتَهن ثم وحَّدتَه وأثنيت عليه فهذا يسمَّ دعاءً بهذا التأويل، فسمي قبوله إجابةً للتجانس، ولهذا قال ابن الأنباريِّ:«أُجِيبُ» ههنا بمعنى «أًسْمَعُ» ؛ لأن بيهن السماع والإجابة نوع ملازمةٍ، فلهذا السبب يقام كلُّ واحدٍ منهما مُقام الآخر، فقولنا:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ، أي: أجاب الله، فكذا هاهنا قوله:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} ، أي: أَسْمَعُ تلكَ الدَّعوة، فإذا حَمَلنا قوله تعالى {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} على هذا الوجه، زال الإشكال.
وقيل: المرادُ من الدعاءِ التَّوْبة مِنَ الذُّنُوب؛ وذلك لأنَّ التائب يدعُو الله تعالى بتوبته، فيقْبَلُ توبته، فإجابته قبول توبته إجابة الدُّعَاء، فعلى هذا الوجه أيضاً يزول الإشكال.
وقيل: المرادُ من الدُّعاء العبادةُ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: الدعاءُ هو العبَادةُ ويدلُّ عليه قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر: ٦٠] فالدُّعاء هاهنا هو العبادة.
وإذا ثَبَتَ ذلك، فإجابة الله للدُّعاء عبارةٌ عن الوفاءِ بالثَّواب للمُطيع؛ كما قال
{وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ}[الشورى: ٢٦] روى شهرُ بنُ حوشبٍ عن عبادة بن الصامت، قال: سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقولُ:«أعطيت أُمَّتي ثلاثاً، لم تُعطَ إِلَاّ للأنبياء: كان الله إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ، قَالَ:» ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ «، وقال لهذه الأُمَّة:» ادعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «وكان الله إذا بعث النَّبيَّ، قال له:» مَا جَعَلَ عَلَيْكَ في