والمَنَاسِكُ، جمعُ «مَنْسِكٍ» بفتح السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُها، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً، والقُرَّاء على إظهار هذا، ورُوِي عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه حركة الإِعرابِ بحركةٍ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً «مَنَاسِككمْ» ولم يُدْغِمْ ما يُشْبِهُهُ من نحو: {جِبَاهُهُمْ}[التوبة: ٣٥] و {وُجُوهُهُمْ}[آل عمران: ١٠٦] .
قال بعض المُفسِّرين: إن جعلها جمع «مَنْسَك» الذي هو المَصْدَر بمنزلة النُّسُك، فالمراد: إذا قضيتم عبادتكُم الَّتِي أُمِرْتُمْ بها في الحَجِّ، وإن جَعَلْتَها جمع «مَنْسَك» الذي هو مَوْضع العِبادة، فالتَّقدير: فإذا قَضَيْتُم أعمال مناسِكِكُم، فيكون من باب حَذْفِ المُضَاف.
إذا عُرِفَ هذا؛ فنقول: قال بعضهم: المراد بالمَنَاسِكِ ما أَمَر الله - تعالى - به في الحَجِّ من العِبَادَاتِ، وقال مُجاهد: قضاء المَنَاسِكِ: إراقَةُ الدِّمَاء، يقال: أنسَك الرجل يَنْسُك نُسْكاً، إذا ذبح نسِيكته بعد رَمْي جمرة العقبة والاستقرار بمِنىً، والفَاءُ في قوله:{اذكروا الله} تدلُّ على أنَّ الذَّكْر يجب عقيب الفراغ من المَنَاسِك؛ فلذلك اخْتَلَفُوا.
فمنهم من حمله على التكبير بعد الصَّلَاة يَوْم النَّحْر وأَيَّام التَّشْريق - على حسبِ اختِلَافهم في وقته - أن بعد الفراغ من الحَجَّ لا ذِكْر مَخْصُوص إلَاّ التكبِير.
ومنهم من قال: بل المُراد تحويلُ القَوْم عمّا اعتَادُوهُ بعد الحَجِّ من التَّفَاخُر بالآباء؛ لأنه تعالى لم يم يَنءه عنه بهذه الآية الكريمة، لم يَعْدلُوا عن هذه الطَّرِيقة.
ومنهم من قال: بل المُراد منه أنّ الفَراغَ من الحَجِّ يوجِبُ الإِقبَال على الدَّعاء والاستغفار؛ كما أن الإِنْسَان بعد الفَراغ من الصَّلاة يُسَنُّ أن يشتغل بالذِّكر والدُّعاء.
قوله:{كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} الكافُ كالكاف في قوله {كَمَا هَدَاكُمْ}[البقرة: ١٩٨] إلَاّ في كونها بمعنى «عَلَى» أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفتْ إليه، والجمهورُ على نصب «آبَاءَكُمْ» مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل، وقرأ محمدُ بنُ كعبٍ:«آبَاؤكُمْ» رفعاً، على أنَّ المصدرّ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه، ورُوِيَ عنه أيضاً:«أَبَاكُمْ» بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراةَ الجماعة في كونِ