قال ابن الخطيب: وهذا يستقيم على قول الفرَّاء، وضعيف على قول الزَّجَّاج؛ لأنَّهُ قد تقدَّم ذكر ذلك، فإنَّه تعالى قال:«وَكُفْر بِهِ أَكْبَرُ» فحمل الفتنة على الكفر يكون تكراراً.
والقول الثاني: أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشُّبهات في قلوبهم، وتارةً بالتَّعذيب كفعلهم ببلال، وعمَّار، وصهيب.
قال: محمَّد بن إسحاق: لأن الفتنة عبارة عن الامتحان، يقال: فتنت الذَّهب بالنَّار: إذا أدخلته فيها لتزيل غشَّه قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}[التغابن: ١٥] ، أي: امتحان؛ لأنَّهُ إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله، تفكّر في ولده؛ فصار ذلك مانعاً عن الإنفاق وقال تعالى:{الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت: ١ - ٢] ، أي: لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء، وقال:{وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}[طه: ٤٠] وقال: {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله}[العنكبوت: ١٠] وقال: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات}[البروج: ١٠] والمراد أنهم آذوهم، وعذبوهم لبقائهم على دينهم. وقال:{إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا}[النساء: ١٠١] ، وقال:{مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ}[الصافات: ١٦٢] وقال: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة}[آل عمران: ٧] أي: ابتغاء المحبَّة في الدِّين. وقال:{واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ}[المائدة: ٤٩] وقال: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً}[يونس: ٨٥] والمعنى: أن يفتنوا بها عن دينهم، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر؛ وقال:{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون}[القلم: ٥ - ٦] قيل: المفتون المجنون؛ لأنَّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنةٌ وعدولٌ عن سبيل العقلاء، وإذا ثبت أنَّ الفتنة هي المحنة، فالفتنة أكبر من القتل؛ لأنَّ الفتنة عن الدِّين تفضي إلى القتل الكبير في الدُّنيا وإلى استحقاق العذاب الدَّائم في الآخرة، فصحَّ أنَّ الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الَّذي وقع السُّؤال عنه، وهو قتل ابن الحضرميّ.
روي أنَّه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكَّة: إذا عيَّركم المشركون بالقتال في الشَّهر الحرام؛ فعيروهم بالكفر، وإخراج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقتال من مكَّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام.
وصرح هنا بالمفضول في قوله:{والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف.
قوله:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} هذا فعل لا مصدر له، قال الواحديّ: ما زال يفصل ولا يقال منه: فاعل، ولا مفعول، ومثاله في الأفعال كثير نحو «عَسَى» ليس له مصدرٌ،