الإحسان أَنَّه إذا طلَّقها لا يأخُذُ منها شيئاً، ويدخُل في هذا النَّهي ألا يُضَيِّقَ عليها ليلجئها إلى الافتداءِ؛ كما قال في سورة النساء:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ}[النساء: ١٩] وقوله هنا: {إِلَاّ أَن يَخَافَآ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} هو كقوله: {إِلَاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ}[النساء: ١٩] وقال أيضاً: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً}[النساء: ٢٠ - ٢١] .
فإن قيل: قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} هذا الخِطاب كان للأَزواج، فكيف يطابقه قوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وإن كان للأَئِمَّة والحُكَّام فهؤلاء لَا يأخذون منهنّ شيئاً؟
قلنا: الأمران جائزان:
فيجُوز أن يكون أوَّلُ الآيةِ خِطَاباً للأَزْوَاجِ، وآخِرُها خِطاباً للأَئِمَّة والحُكَّامِ، وليس ذلك بغريبٍ من القُرْآن.
ويجوزُ أن يكون الخِطَابُ كُلُّه للأَئِمَّة والحُكَّام؛ لأنهم هُمُ الَّذِين يَأْمُرُون بالأَخْذِ والإِيتَاءِ عند التَّرافُع إليهم فَكَأَنَّهم هم الآخِذُون والمُؤتون، ويَدُلُّ له قراءةُ حمزة المتقدِّمة:«يُخَافَا» بضم الياءِ، أي: يعلم ذلك منهما، يعني: يعلَم القاضي والوالي ذلك من الزَّوجين، ويطابقه قوله:«فَإِنْ خِفْتُمْ» فجعل الخوف لغير الزَّوجين، ولم يقل:«فإن خافا» . واعلم أنَّه لما منع الرجُل أن يأخذ من امرأَتِه شيئاً عند الطَّلَاق، استثنى هذه الصُّورة، وهي مسألة الخُلع، واختلفُوا في هذا الاستثناء؛ هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنقطع؟
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة فقهيَّة؛ وهي أن أكْثَر المجتهدين جوَّز الخُلْع في غيرِ حالة الخوفِ والغَضَبِ.
وقال الزُّهري والنَّخعي وداود: لا يباح الخُلعُ إلَاّ عند الغضب والخوف من ألَاّ يُقِيما حدود الله، فإن وقع الخُلْعُ في غيرِ هذه الحالةِ، الخُلْعُ فاسِدٌ، واحْتَجُّوا بهذه الآيةِ؛ فإنها صريحةٌ في تحريم الأخذ من الزَّوجةِ عند طلاقها، واستثني هذه الصُّورة.
وأما جمهور المجتهدين فقالوا: الخُلعُ جائزٌ في حالة الخوف وغيره؛ لقوله تعالى:{فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً}[النساء: ٤] وإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصِّل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت، كان الخُلع الَّذِي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى، ويكون الاستثناء منقطعاً؛ كقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَئاً} [