فالجواب: أمَّا على قول أصحاب أبي حنيفة، فالسؤال ساقطٌ عنهم؛ لأنهم حملوا قوله تعالى:{الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة: ٢٢٩] على أن الجمع بين الطلقات غير مشروعٍ، وإنَّما المشروع هو التفريق، فإن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق، وهذه في بيان كيفية المراجعة.
وأمَّا على قول أصحاب الشافعي، الذين حملوا تلك الآية على كيفية المراجعة، فلهم أن يقولوا: إنَّ من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهمَّ، أن يعيد بعد ذلك الحكم العامِّ تلك الصورة الخاصَّة مرَّةً أخرى؛ ليدلَّ ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام، ما ليس في غيرها، وها هنا كذلك؛ لأن قوله:{الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة: ٢٢٩] فيه بيان أنه لا بدَّ في مدّضة العدَّة من أحد هذين الأمرين، ومن المعلوم أنَّ رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة، أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبله؛ لأن أعظم أنواع الإيذاء، أن يطلقها، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل؛ حتى تبقى في العدة تسعة أشهرٍ، فلمَّا كان هذا أعظم أنواع المضارة، حسن إعادة حكم هذه الصورة، تنبيهاً على أنّض هذه الصورة أعظم اشتمالاً على المضارة، وأولى بأن يحترز المكلف عنها.
فصل في معنى الإمساك بالمعروف
قال القرطبيُّ: الإمساك بالمعروف، هو القيام بما يجب لها من حقٍّ على زوجها؛ وكذلك قال جماعةٌ من العلماء: إنَّ من الإمساك بالمعروف أنَّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة، أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حدِّ المعروف، فيطلِّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللَاّحق بها؛ لأن في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، ضرراً، والجوع لا يصبر أحدٌ عليه، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة، وأبو ثور، وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول عمر، وعلي، وأبي هريرة.
وقال سعيد بن المسيَّب: إنَّ ذلك سنةٌ، ورواه أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقالت طائفةٌ: لا يفرٌَّ بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلّق النفقة بذمَّته، بحكم الحاكم؛ لقوله تعالى:{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}[البقرة: ٢٨٠] .
وحجّة الأوَّلين الآية، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «تقول المرأة إمَّا أَنْ تُطْعِمني وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي» رواه البخاري في «صحيحه» .