و {مِن بَعْدِ موسى} متعلِّقٌ بما تعلَّقَ [به] الجارُّ الأولُ، وهو الاستقرار، ولا يضُرُّ اتحادُ الحرفين لفظاً لاختلافِهما معنًى، فإِنَّ الأولى للتبعيض والثانية لابتداءِ الغاية. وقال أبو البقاء:«مِنْ بعدِ» متعلِّقٌ بالجار الأول، أو بما تعلَّق به الأول يعني بالأولِ:«من بني» ، وجعله عاملاً في «مِنْ بعد» لِما تضمنَّه من الاستقرار، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه، وهذا على رأي بعضِهم، يَنْسِبُ العمل للظرف والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً، فتقول في نحو:«زيدٌ في الدار أبوه» أبوه: فاعلٌ بالجارِّ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ، وهو الوجهُ الثاني. وقدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً. تقديرُه: من بعدِ موسى، ليصِحَّ المعنى بذلك.
قوله:{إِذْ قَالُواْ} العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين:
أحدهما: أنه العاملُ في «مِنْ بعد» لأنَّه بدلٌ منه، إذ هما زمانان، قاله أبو البقاء: والثاني: أنه «ألم تر» قال شهاب الدين وكلاهما غيرُ صحيحٍ.
أمَّا الأول فلوجهين:
أحدهما من جهة اللفظِ والآخرُ من جهة المعنى. فأمّا الذي من جهة اللفظِ فإنه على تقدير إعادة «مِنْ» و «إذ» لا تُجَرُّ ب «مِنْ» . الثاني: أنه ولو كانَتْ «إذ» من الظروف التي تُجَرُّ ب «مِنْ» كوقت وحين لم يصِحَّ [ذلك أيضا لأنَّ العاملَ في «مِنْ بعد» محذوفٌ فإنه حالٌ تقديره: كائنين من بعد، ولو قلت: كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يصِحَّ] هذا المعنى.
وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى «ألم تر» تقريرٌ للنفي، والمعنى: ألم ينته علمُك، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولهم ذلك، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ، تقديره: ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديث الملأ ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها، فصار المعنى: ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ، ولا يصحُّ المعنى إلا به لِما تقدَّم.