الثاني: أَنَّ المراد منه المعجزات، فَإِنَّ كل واحد من الأَنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزات على ما يَليقُ بزمانه، فمعجزات موسى هي قلب العصا حيّة، واليد البيضاء، وفلق البحر كان كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدّمين فيه، وهو السّحر. ومعجزات عيسى، وهي إِبراءُ الأَكمه، والأَبْرَص، وإِحياء الموتى كالشَّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدِّمين فيه، وهو الطِّبُّ.
ومعجزة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي القرآن كانت من جنس الفصاحة، والبلاغة والخطَب، والأَشعارِ، وبالجملة فالمعجزاتُ متفاوتةٌ بالقلَّةِ والكثرة وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القُوَّةِ.
الثالث: أن المراد بتفاوت الدّرجات ما يتعلّق بالدُّنيا من كثرة الأَتباع والأصحاب وقوَّة الدَّولة، وإذا تَأَمَّلْتَ هذه الوجوه؛ علمت أَنَّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان جامعاً لِلْكُلِّ، فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى، وأقوى، وقومه أكثر، ودولتُهُ أعظمُ وأوفر.
الرابع: أَنَّ المراد بقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} هو محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأنَّه هو المفضل على الكُلّ، وإنما قال «وَرَفَعَ بَعْضَهُم» على سبيل الرَّمْزِ، لمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له: من فعل هذا الفعل؛ فيقول: أحدكم، أو بعضكم، ويرِيدُ به نفسهُ وذلك أفخمُ من التَّصريح به، وقد سُئِل الحُطَيئَةُ عن أَشعرِ النَّاسِ، فذكر زهيراً، والنَّابغة، ثم قال:«ولو شئت لذكرت الثَّالِث» أراد ن فسه.
فإن قيل: المفهومُ من قوله {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} هو المفهوم من قوله: «تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ» ، فما فائدة التكرير؟
فالجواب: أَنَّ قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، ولكنّه لا يدلُّ على أَنَّ ذلك التّفضيل، حصل بدرجة، أو بدرجات، فبيَّن بالثَّاني أَنَّ التَّفضِيل بدرجات.
فإن قيل: قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ] كلام كلي، وقوله بعد ذلك {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ، إعادة لذلك الكلام الكُلّي، ومعلومٌ أَنَّ إعادَة الكَلَامِ الكليّ بعد الشُّرُوعِ في تفصيل جُزْئِيَّاتِهِ، يكون تكراراً.