ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَمَنَّ عَلَيْنَا في صُحْبَتِهِ، وَلَا ذَات يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ» يريد أكثر إنعاماً بماله، وأيضاً فالله تعالى يوصف بأنَّه منَّانٌ، أي: منعمٌ، و «المنّ» أيضاً النَّقص من الحقّ. قال تبارك وتعالى:{وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ}[القلم: ٣] أي: غير مقطوع وغير ممنوع؛ ومنه سمي الموت منوناص؛ لأنه ينقص الحياة، ويقطعها، ومن هذا الباب: المنَّةُ المذمومة؛ لأنَّها تنقص النّعمة، وتكدّرها، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنِّعمة قال قائلهم:[الرمل]
تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ ... وَهْوَ في العَالَمِ مَشْهُودٌ كَثِيرْ
والمنُّ: الذي يوزن به، ويقال في هذا:«مَنَا» مثل: عَصَا. وتقدَّم اشتقاق الأذى.
و «مَنّاً» مفعولٌ ثانٍ، و «لَا أَذًى عطفٌ عليه، وأبعد من جعل» وَلَا أَذًى «مستأنفاً، فجعله من صفات المتصدِّق، كأنَّ قال: الذين ينفقون، ولا يتأذَّون بالإِنفاق، فيكون» أَذى «اسم لا، وخبرها محذوفٌ، أي: ولا أذًى حاصل لهم، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النَّهي.
قال شهاب الدِّين: وهذا تكلُّفٌ، وحقُّ هذا القائل أن يقرأ» وَلَا أَذَى «بالألف غير منوَّنٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الفتح على مشهور مذهب النُّحاة.
فصل في سبب النزول
قال الكلبيُّ: نزلت في عثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف.
أمَّا عثمان فجهّز جيش العسرة في غزوة» تبوك «، بألف بعيرٍ بأقتابها، وأحلاسها، وألف دينارٍ.
» قال عبد الرَّحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينارٍ في جيش العسرة، فصبّها في حجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدخل فيها يده الكريمة ويقلبها، ويقول:«مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْم» وقال «يَا رَبِّ؛ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ» فنزلت هذه الآية الكريمة.
«وأمَّا عبد الرحمن بن عوفٍ، فإنَّه جاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -