فقال: كانت عندي ثمانية آلاف، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلافٍ أقرضتها ربّي، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ، وفِيمَا أَعْطَيْتَ «فنزلت الآية. وقال بعض المفسِّرين: إن الآية المتقدمة مختصّة فيمن أنفق على نفسه وهذه الآية الكريمة فيمن أنفق على غيره، فبين تعالى أنَّ الإنفاق على الغير، يوجب الثَّواب المذكور في الآية المتقدِّمة، إذا لم يتبعه» مَنّ «،» ولا أَذًى «قال القفَّال: وقد يحتمل أن يكون هذا الشَّرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمؤمنين، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين، مثل أن يقول: لو لم أحضر لما تمَّ هذا الأمر، ويقول لغيره: أنت ضعيفٌ لا منفعة بك في الجهاد.
وقال بعضهم:» فِي سبيلِ «، أي: طاعة الله - تعالى -؛ ولا يمنّ بعطائه، ولا يعدّ عليه نعمه، فيكدرها عليه ولا يؤذيه بأن يعيره، فيقول: إلى كم تسأل، وكم تؤذيني؟ وقيل: الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه.
وقال سفيان:» مَنّاً وَلَا أَذًى «: هو أن قول: قد أعطيتك، فما شكرت. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً، ورأيت أنَّ سلامك يثقل عليه، فكف سلامك عنه، فحظر الله على عباده المنَّ بالصَّنيعة، واختصّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّه من العباد تعييرٌ وتكديرٌ، ومن الله إفضال، وتذكير، وإنَّما كان المنُّ، والأذى مذموماً، لأنَّ الفقير الآخذ للصَّدقة منكسر القلب، لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك: إظهار ذلك الإنعام، زاد ذلك في انكسار قلبه، فيكون في حكم المضرَّة بعد المنفعة، وينفّر أهل الحاجة عن الرَّغبة في صدقته إذا اشتهر بتلك الطَّريقة، وأمَّا» الأذَى «، فمنهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين، وليس بظاهرٍ، بل اختصاصه بما تقدَّم من أذى الفقير أولى.
فإن قيل: ظاهر اللَّفظ: أنَّ مجموع المنّ، والأذى يبطلان الأجر، فيلزم منه أنَّه لو وجد أحدهما دون الآخر، لا يبطل الأجر.
قلنا: بل الشَّرط ألَاّ يوجد واحدٌ منهما؛ لأن قوله:{لَا يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلَا أَذًى} يقتضي ألَاّ يقع منه، لا هذا، ولا ذاك.
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
قالت المعتزلة: الآية الكريمة دلَّت على أنَّ الكبائر تحبط ثواب فاعلها؛ وذلك لأنَّ الله - تعالى - بين أنَّ هذا الثَّواب إنَّما يبقى إذا لم يوجد المنّ والأذى؛ لأنَّه لو ثبت مع