وأعرض عن أسباب التذكُّر، فهذا يصحُّ طلب غفرانه بالدُّعاء.
الثاني: أن هذا دعاء على سبيل التَّقدير؛ لأنَّ هؤلاء الَّذِين ذكروا هذا الدُّعاء كانوا متَّقين لله حقَّ تقاته، فلم يكن يصدر عنهم ما لا ينبغي إلَاّ على وجه النِّسيان والخطأ، فكان وصفهم بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عمَّا يؤاخذون به؛ كأنه قيل: إذا كان النِّسيان ممَّا تجوز المؤاخذة به، فلا تؤاخذنا به.
الثالث: أنَّ المقصود من هذا الدُّعاء إظهار التَّضرُّع إلى الله تعالى لا طلب الفعل؛ لأن الدَّاعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأنَّ الله تعالى يفعله، سواءٌ دعا أو لم يدع؛ قال:{رَبِّ احكم بالحق}[الأنبياء: ١١٢] ، وقال:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ}[آل عمران: ١٩٤] ، وقالت الملائكة:{فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم}[غافر: ٧] فكذا ههنا.
الرابع: أن مؤاخذة النَّاسي ممتنعةٌ عقلاً، لأنَّ الإنسان إذا علم أنه بعد النِّسيان يكون مؤاخذاً، فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذٍ لا يصدر عنه، إلَاّ أنَّ استدامة ذلك الذِّكر يشقُّ على النَّفس، فلمَّا جاز ذلك في العقول، حسن طلب المغفرة منه.
الخامس: أن الَّذين جوَّزوا تكليف ما لا يُطاق بهذه الآية، فقالوا: النَّاسي غير قادرٍ على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنَّه جائزٌ عقلاً أن يعاقبه الله عليه، لما طلب بالدُّعاء ترك المؤاخذة به.
القول الثاني: أن المراد بالنِّسيان: التَّرك؛ قال الله تعالى:{نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ}[التوبة: ٦٧] ، أي: تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم، ويقول الرَّجل لصاحبه «لَا تَنْسِني من عَطِيَّتِكَ» ، أي: لا تتركني، فالمراد بهذا النِّسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسدٍ، والمراد بالخطأ: أن يفعل الفعل لتأويل فاسدٍ.
وأُطلق على العهد والميثاق لثقلهما؛ كقوله تعالى:{وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي}[آل عمران: ٨١] أي: عهدي، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}[الأعراف: ١٥٧] أي: التكاليف الشاقة ثم يطلق على كلِّ ما يثقل، حتى يروى عن بعضهم أنه فسَّر الإصر هنا بشماتة الأعداء؛ وأنشد:[الكامل]