وتحقيقه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر - بالنسبة إليهم - يجري مجرى حفظ الواجبات - بالنسبة إلينا - وبعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتُهم في الزيادة على ذلك القدر، فكلما كان أكثر نصيباً كان أعلى قَدْراً.
والله أعلم.
قوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} يجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها - حينئذ - وجهان:
أحدهما: « {أنى» لأنها بمعنى «كيف» أو بمعنى «مِنْ أيْنَ» ؟ ، و «لِي» - على هذا - تبيين.
والثاني: أن الخبر هو الجار والمجرور، و «كيف» منصوب على الظرف. ويجوز أن تكون التامة، فيكون الظرف والجار - كلاهما - متعلقين ب «يَكُونُ» ، أي: كيف يحدث لي غلام؟
ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «غُلَامٌ» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له.
قوله: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} جملة حالية.
قال أهل المعاني: «كل شيء صادفتَه وبلغتَه فقد صادفكَ وبلغكَ» .
فلهذا جاز أن نقول: بلغتُ الكِبَرَ، وجاز أن تقول: بلغَنِي الكِبَرُ، يدل عليه قولُ العربِ: تلقيت الحائط وتلقاني الحائط.
وقيل: لأن الحوادث تطلب الإنسان. وقيل: هو من المقلوب، كقوله: [البسيط]
١٤٤٠ - مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجرُ
فإن قيل: أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد؟
فالجواب: أنه لا يجوز، والفرق بينهما أن الكِبَر كالشيء الطالب للإنسان، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه - أيضاً - بمرور السنين عليه، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب، فظهر الفرقُ.
فصل
قدم في هذه السورة حال نفسه، وأخَّر حالَ امرأته، وفي سورة مريم عكس.
فقيل: لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه، واشتعالَ شيْبه، وخوفه مواليه ممن ورائه، وقال: «وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً» فلما أعاد ذِكْرَهما