فالجوابُ من وجوهٍ:
أحدها: قالوا: لم يتكلم صبيٌّ في المهد، وعاش، أو لم يتكلمْ أصلاً، بل يبقى أخرس أبداً، فبشَّر اللهُ مريم بأن هذا يتكلم طفلاً، ويعيش حتى يكلم الناس في كهولته، ففيه تَطْمِينٌ لخاطرِها.
وثانيها: قال الزَّمخْشَريُّ وأبو مسلم: «يكلم الناس طفلاً وكهلاً ومعناه يتكلم في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة» .
وثالثها: يكلم الناسَ مرةً واحدةً في المهدِ؛ لإظهار بَرَاءةِ أمِّه، ثم عند الكُهُولةِ يتكلم بالوحي والنبوة.
ورابعها: قال الأصَمُّ: المراد منه: بيان أنه يبلغ من [الصِّبَا، إلى] الكهولة.
وخامسها: أنّ المرادَ منه الرد على وَفْد نجرانَ في قولهم: إن عيسى كان إلهاً، فإنه منقلب في الأحوال من الصِّبَا إلى الكهولة، والتغيُّر على الإلهِ محال.
فإن قيل: قد نقل أن عُمْر عيسى - لما رُفِع - كان ثلاثاً وثلاثين سنةً وأشْهُراً، وعلى هذا التقدير، فلم يبلغْ سِنَّ الكهولةِ.
فالجوابُ: قد بيَّنَّا أن الكهلَ - في اللُّغةِ - عبارة عن الكامل التام، وأكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين إلى الأربعين - فصَحَّ وصْفُه بكونه كَهْلاً.
وقال الحُسَيْن بنُ الفَضْل البَجَلِيُّ: «ويكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، ويكلم الناسَ، ويقتل الدَّجَّالَ، قال: وفي الآية نص على أنه - عليه السلامُ - سينزل إلى الأرض» .
و «وَجِيهاً» اشتقاقه من الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء. والجاه مقلوب منه، فوزنه «عَفل» .
قوله: {فِي الدنيا} متعلق ب «وَجِيهاً» ؛ لما فيه من معنى الْفِعْلِ، ومعنى كونه {وَجِيهاً فِي الدنيا} بسبب النبوة، و «في الآخرة» بسبب عُلُوِّ المنزلة.
وقوله: {فِي الدنيا} بأنه مُسْتَجَاب الدعاء، ويُحْيي الموتى، ويُبْرِئ الأكمه والأبْرَصَ بدعائه، وفي الآخرة بأنه يشفع في المُحِقِّين من أمته.
وقيل: في الدنيا؛ لأنه مبرأٌ من العيوب التي وَصَفَتْه اليهودُ بها، وفي الآخرة بكثرة ثوابه وعُلُوِّ درجته.
فإن قيل: كيف كان وجيهاً في الدنيا، واليهود عاملوه بما عاملوه؟
والجوابُ: أنه - تعالى - سمَّى موسى - عليه السلامُ - بالوجيه، مع أن اليهودَ طعنوا