منهم من قال: إنَّ قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينا}[آل عمران: ٨٥] وما بعده إلى قوله {وأولئك هُمُ الضآلون}[آل عمران: ٩٠] نزل جميعه في قصة واحدة، ومنهم من قال: ابتداء القصة من قوله «إلا الذين تابوا» إلى «إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار» على التقديرين ففيها - أيضاً - قولان:
أحدهما: أنها في أهل الكتاب.
والثاني: أنها في قوم مرتدين عن الإسلام، آمنوا ثم ارتدوا.
فصل
قالت المعتزلةُ: أصولنا تشهد بأن الله هدى جميعَ الخلقِ إلى الدِّينِ؛ بمعنى: التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف، فلو لم يَعُمّ الكُلَّ بهذه الأشياء لصار الكافرُ والضالُّ معذوراً، ثم إنه تعالى - حكم بأنه لم يَهْدِ هؤلاء الكفارَ، فلا بد من تفسير هذه الهدايةِ بشيء آخرَ سوى نَصْب الدلائل، ثم ذكروا فيه وجوهاً:
الأول: أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين؛ ثواباً لهم على إيمانهم، كقوله:{والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت: ٦٩] وقوله: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد: ١٧] وقوله: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَه}[المائدة: ١٦] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدًى.
الثاني: أن المراد أنه - تعالى - لا يهديهم إلى الجنة، قال تعالى:{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَاّ طَرِيقَ جَهَنَّم}[النساء: ١٦٨ - ١٦٩] وقال: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار}[يونس: ٩] .
والثالث: أنه لا يمكن أن يكون المرادُ من الهداية خلق المعرفة فيه؛ لأنه - على هذا التّقْدِيرِ - يلزم أن يكون الكفر - أيضاً - من الله؛ لأنه - تعالى - إذا خلق المعرفةَ فيه كان مؤمناً مهتدياً، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضَالاً، وإذا كان الكفر من الله - تعالى - لم يَصِحّ أن يذُمَّهم الله - تعالى - على الكفر، ولم يَصِحّ أن يُضاف الكفرُ إليهم، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر، وكونهم فاعلين للكفر، فإنه قال:{كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} ؟ فأضاف الكفر إليهم، وذمَّهم عليه.
وقال أهل السنة: المرادُ من الهداية خلق المعرفة، وقد جَرَت سُنَّة اللهِ في دار التكليفِ أن كلِّ فِعْلٍ يقصد العبد إلى تحصيله، فإن الله - تعالى - يخلقه عقيب القصد من العبد، فكأنه - تعالى - قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفةَ والهدايةَ وهم قصدوا تحصيلَ الكفر وأرادوه؟
فإن قيل: قال - في أول الآية -: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ} وقوله في آخرها: «والله لا يهدي القوم الظالمين» يقتضي التكرار.