فإن قيل: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، هذه الصفات الثلاث كانت حاصلة في سائر الأمم، فمن أي وَجْهٍ كانت هذه الأمة خير الأمم؟
والجواب: قال القفال: إن تفضيلهم على سائر الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر بآكد الوجوه - وهو القتال -: لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان، واليد، وأقواها القتال؛ لأنه إلقاء للنفس في خطر القتل، وأعرف المعروفات الدين الحق، والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، فلما كان الجهاد في الدين تحملاً لأعظم المضارّ؛ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم المضار، وجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل العبادات، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل هذه الأمة على سائر الأمم.
وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويُقِرُّوا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، و «لا إله إلا الله» أعظم المعروف، والتكذيب هو أنكر المنكر.
ثم قال القفال: فائدة: القتال على الدين لا يُنكره مُنْصف، لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة، ولا يتأملون في الدلائل الواردة عليهم، فإذا أكره - بالتخويف بالقتل - على الدخول في الدين، دخل فيه، ثم لا يزال يَضْعُف في قلبه ما كان من حب الباطل، ويقوى حُبُّ الدين الحقِّ في قلبه إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحقّ، ومن استحقاق العذاب الأليم إلى استحقاقِ الثوابِ الدائم، والنعيم المقيم.
فإن قيل: لم قدم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الإيمان بالله، في الذكر - مع أن الإيمان بالله - لا بد وأن يكون مُقَدَّماً على كل الطاعات.
فالجواب: أن الإيمان بالله مشترك فيه بين جميع الأمم المُحِقَّةِ، ثم إنه - تعالى - ذكر أن فَضْل هذه الأمَّة أقوى حالاً - في الأمر بالمعروف، والنَّهْيِ عن المنكر - من سائر الأمم، فالمؤثر - إذَنْ - في هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم؛ لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات وصْفاً من صفات الخيرية.
فإن قيل: لم اكتفى بذكر الإيمان بالله، ولم يذكر الإيمان بالنبوة، مع أنه لا بُدَّ منه؟
فالجواب: أنّ الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوة، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً، والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر