بالغيبة - إما على الرجوع على الكفار المتقدمين، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.
فإن قيل: ههنا ثلاثة مواضع، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير، وقدِّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمةُ في ذلك؟
فالجوابُ: ان الأولَ لمناسبة ما قبله، من قوله:{إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى} فرجع الموت لمن ضرب في الأرض، والقتل لمن غزا، وأما الثاني فلأنه مَحَلَّ تحريض على الجهادِ، فقُدِّمَ الأهمّ الأشرف، وأما الأخير فلأن الموت أغلب.
فإن قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلاً.
فالجوابُ: أنَّ الذي يجمعونه في الدُّنيا قد يكون من الحلال الذي يُعَدُّ خيراً، وأيضاً هذا واردٌ على حسب قولهم ومُعْتَقَدهم أن تلك الأموال خيرات.
فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
قوله:{وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} هذا الترتيب في غاية الحُسْنِ؛ فإنه قال في الآية الأولى:{لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله} وهذه إشارةٌ إلى مَنْ عَبَدَه خوفاً من عقابه، ثم قال:{وَرَحْمَةٌ} وهو إشارة إلى مَنْ عبده لطلب ثوابه، ثم ختمها بقوله:{لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وهو إشارة إلى مَنْ عبده لمجردِ لمجردِ العبوديةِ والربوبيةِ، وهذا أعلى المقاماتِ، يروى أن عيسى - عليه السَّلامُ - مَرَّ باَقوامٍ نُحِفَتْ أبْدَانُهُمْ، واصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، ورأى عليهم آثارَ العبادة، فقال: ماذا تَطْلُبُون؟ فقالوا: نخشى عذابَ اللهِ، فقال: هو أكرمُ من أن يمنعكم رحمته.
ثم مرَّ بقوم، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم: فقالوا: نعبده لأنه إلهُنَا، ونحن عبيدُهُ، لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصونَ، والمتعبدون المحقون.
قوله:{لإِلَى الله} اللام جواب القسم، فهي داخلة على {تُحْشَرُونَ} و {وَإِلَى الله} متعلقٌ به، وإنما قُدِّم للاختصاص، أي: إلى الله - لا إلى غيره - يكون حشركم، أو للاهتمام به، وحسًّنه كونُه فاصلة، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده [بالنون] ، مع اللام، خلافاً للكوفيين؛ حيث يُجيزون التعاقُبَ بينهما.