جَائِزٍ، فيتَعَيَّن أن يكُون المُرَادُ:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} حكمه غير مَذْكُورٍ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ والإجْمَاعِ، فيَجِبُ أن يُرَدّ حُكْمُه إلى الأحْكَامِ المَنْصُوصَةِ المُشَابِهَة له، وذلِك هُوَ القِيَاسُ.
فإن قيل: لِمَ لا يَجُوزُ أن يكُون المرادُ بِقَوْلِهِ: {فَرُدُّوهُ} أي: فَوَّضُوا حُكْمَه إلى اللهِ ولا تَتَعرَّضُوا له، أو يكون المرادُ: رُدُّوا غيْر المَنْصُوصِ إلى المَنْصُوصِ؛ في أنَّه لا يُحْكَمً فيه إلَاّ بالنَّصِّ، أو فرُدُّوا هذه الأحْكَام إلى البَراءة الأصْلِيَّة.
والجواب عن الأوَّل والثَّاني: أنه - تعالى - جعل الوَقَائِعَ قِسْمَيْن: منها ما هُو مَنْصُوصٌ علَيْه، ومِنْهَا ما لا يكُون كذلك، ثم أمر في القِسْمِ الأوَّلِ بالطَّاعةِ والانْقِيَادِ، وأمر في الثَّانِي بردِّه إلى الله وإلى الرَّسُول، ولا يجوزُ أن يكُونَ المُرادُ بِهَذَا الرَّدِّ السكوت؛ لأن الواقِعَةَ رُبَّمَا كانَت لا يَحِلُّ السُّكُوت فيها، بل لا بُدَّ من قطْعِ الخُصُومَةِ فيها، إما بِنَفْيٍ أو إثْبَاتٍ، فامْتَنَعَ حَمْلُ الرَّدِّ إلى اللهِ على السُّكُوتِ.
وأما الثالث: فإنَّ البَرَاءَة الأصْلِيَّة مَعْلُومَةٌ بحكم العَقْلِ، فارَّدُّ إليها لَيْسَ رَدَّاً إلى الله، وإذا رَدَدْنا حكْمَ الواقِعَةِ إلى الأحْكامِ المَنْصُوص عليها، كان ذلك رَدّاً إلى أحْكام الله - تعالى -.
فصل في تقديم الكتاب والسنة على القياس
دَلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الكِتَاب والسُّنَّة مُقدِّمان على القِياسِ مُطْلقاً، فلا نَتْرُك العَمَل بهما بِسَبَبِ القِياسِ، ولا يجوزُ تَخْصِيصُهَا ألْبَتَّة، سَوَاءً كان القِياسُ جَليَّا أو خَفيَّا، وسواءً كان ذلِكَ النَّصُّ مَخْصُوصَاً قبل ذَلِك أمْ لَا؛ لأن الله - تعالى - أمَر بطاعَةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ في قوله:{أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} سواء حَصَلَ قياسٌ يُعَارِضُهمَا أو يُخَصِّصُهُمَا، أوْ لم يُوجَد؛ ولأن قوله:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله} صريح بأنه لا يجوزُ العُدولُ إلى القياسِ، إلَاّ عند فُقْدان الأصُولِ الثلاثةَ، وأيضاً فإنَّهُ أخّر ذلك القياس عن ذِكْرِ الأصُولِ الثَّلاثَةِ، وذلك فُقْدان الأصُولِ الثلاثَةِ؛ ولأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اعْتَبَرَ هذا التَّرتيبَ في قِصَّةِ مُعَاذٍ، وأخر الاجتهاد عن الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وعَلَّقَ جَوازَهُ على عدمِ وُجْدَانِهِمَا، ولمَّا عَارَضَ إبْليسُ عموم الأمْرِ بالسُّجُودِ بِقياسِهِ في قوله:«خلقتني من نار وخلقته من طين» فخصَّ العُمُوم بالقياس، وقدَّمه على النَّصِّ، فصَار بهذا السَّبَبِ مَلعُوناً، وأيضاً فغن القُرْآن مَقْطُوع بِمتْنِهِ، والقِيَاسُ مَظْنُون من جميع الجهاتِ، والمَقْطُوع راجحٌ على المَظْنُون، وأيضاً العَمَلُ بالظَّنِّ من صِفَاتِ الكُفَّارِ في قولهم: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلَا