فصل في تفسير الإحسان
والمراد ب» الإحسان «قيل: ما أرَدْنَا بالتَّحاكُم إلى غَيْرِ الرَّسول إلَاّ الإحْسَان إلى خُصُومِنَا، واستِدَامة الاتِّفَاق والائتِلاف بَيْنَنَا.
وقيل: ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى عُمَر، إلا أنَّهُ يُحْسِنُ إلى صَاحِبنَا بالحُكْمِ والعَدْلِ، والتَّوْفيقِ بينَهُ وبين خَصْمِهِ، وما خَطَر بِبَالِنَا أنَّه يَحْكُمُ لهُ بِمَا حَكَمِ. وقيلَ: ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى غَيْرك، إلا انَّك لا تَحْكُمُ إلَاّ بالحقِ، وغَيْرُك يُوَفَّقُ بين الخَصْمَيْن، ويأمُرُ كُلَّ واحدٍ بما ذَكَرْنَا ويقرب مراده من مُرَادِ صَاحِبهِ حتى تَحْصُل المُوافَقَة بَيْنَهُمَا.
وقال الكَلْبي:» إلا إحساناً «في القَوْل» وتوفيقاً صواباً.
وقال ابن كَيْسَان: حقَّا وعَدْلاً؛ نظيرُه: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ الحسنى} [التوبة: ١٠٧] ، وقيل: هو تَقْرِيبُ الأمْر من الحقِّ، لا القَضَاءُ على أمْرِ الحُكم.
ثم قال: «أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم» أي: من النِّفَاقِ والغَيْظِ والعَدَاوة.
ثم قال: «فأعرض عنهم» وهذا يُفيدُ أمْرَيِن:
الأوّل: أن لا يَقْبَل مِنْهُم العَذْر ويَصْبِر على سُخْطِهِ، فإن مَنْ لا يَقْبَلُ العُذْرَ فقد يُوصَفُ بأنه مُعْرِضٌ عَنْه، غير مُلْتَفِت إليه.
الثاني: أن هذا يَجْرِي مُجْرَى قوله: اكْتَفِ بالإعْرَاضِ ولا تَهْتِك سَتْرَهُم، ولا تُظْهِر لَهُم علمك بما في بَوَاطِنهم، فإنَّ من هَتَكَ سَتْر عُدُوِّه وأَظهر عِلْمَه بما في قَلْبِهِ، فربما يُجَرِّئُهُ ألَاّ يُبَالِي بإظْهَارِ العَدَاوَة، فَيَزْدَاد الشَّرُّ، وإذا تركَهُ على حَالِهِ، بَقِيَ في خَوْف ووجَلٍ فَيَقِلُّ الشَّرُّ.
ثم قال: «وعظهم» أي: ازجرهم عن النِّفَاقِ والمكْرِ والمكيدَة والحَسَد والكَذِبِ، وخَوِّفْهُم بعقاب الله - تعالى - في الآخِرَةِ، كما قال - تعالى -: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: ١٢٥] .
ثم قال - تعالى -: «فقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً» .
قوله تعالى: «في أنفسهم» فيه أوجه:
الأول: أن يتعلّق ب «قل» ، وفيه معنيان:
الأوّل: قُلْ لهم خالياً لا يكُونُ معهم احد؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول النصيحة.
الثاني: قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يبلغ بهم ما يزجرهم عن العود إلى النفاق.