الأول: أن قوله: «إلا ليطاع» يكفي في تحقيق مَفْهُومه أن يُطيعَهُ مُطِيعٌ واحِدٌ، لا أن يُطيعَه جميع النَّاسِ في جَمِيع الأوْقَاتِ، وعلى هذا فَنَحْنُ نَقُولُ بموجبه؛ وهو [أن] كُلَّ ما أرْسَلَهُ الله - تعالى] ، فقد أطَاعَهُ بَعْضُ النَّاسِ في بَعْضِ الأوْقَاتِ، اللَّهُم إلا أن يُقَالَ: تَخْصِيص الشَّيْء بالذِّكْر يَدُلُّ على نَفْيِ الحُكْمِ همَّا عدا، والجُبَّائِيّ لا يَقُول بِذَلِك، فَسَقَطَ هذا الإشْكَال.
الثاني: يجُوز أن يكُون المُرادُ به: أن كُلَّ كافِرٍ لا بُدَّ وأن يُقرّ [به] عند مَوْتهِ؛ لقوله - تعالى -: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}[النساء: ١٥٩] أو يحمل ذَلِكَ على إيمانِ الكُلِّ بهم يَوْم القِيَامَة، ومن المَعْلُوم أن الوَصْفَ في جَانِب الثُّبوتِ، يكْفي في حُصُول مُسَمَّاه في بَعْضِ الصُّوَر وفي بعض الأحْوَالِ.
الثالث: أن العِلْمَ بعدم الطَّاعَةِ مع وُجُودِ الطَّاعَةِ مُتَضَادَّان، [والضِّدَّان] لا يَجْتَمِعَانِ، وذلك العلْم مُمْتَنِع العَدَم، فكانت مُمْتَنِعَة الوُجُود، والعَالِم بكون الشَّيءِ ممتنع الوُجُود لا يكُونُ مُرِيداً له؛ فثبت بهذا البُرْهَانِ القَاطِع أن يَسْتَحيلَ أن يُريدَ اللَّهُ من الكَافِرِ كَوْنَه مُطِيعاً، فوجَبَ تأويلُ هذه اللَّفْظَة؛ بأن يكون المُرَاد من الكَلَامِ لَيْس الإرَادَةَ بل الأمْر، والتَّقْدِير: وما أرسَلْنَا من رسول إلا ليُؤمَر النَّاسَ بِطَاعَتِهِ.
فصل
استَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّه لا يُوجَد شَيْءٌ من الخَيْرِ والشَّرِّ؛ والكُفْرِ والإيمانِ، والطَّاعَةِ والعِصْيَان، إلا بإرَادَة الله؛ لقوله:«إلا ليطاع بإذن الله» ولا يمكنُ أن يكُون المُرَادُ من هَذَا الإذْنِ: الأمْر والتَّكْليف؛ لأنَّه لا مَعْنَى لكونه رَسُولاً إلا أنَّ الله - تعالى - أمر بِطَاعته، فلو كان [المُرَادُ] من الإذْنِ هذا لصَارَ التَّقْدِير: وما أذِنَّا في طَاعَةِ من أرْسَلْنَاهُ إلا بإذْنِنَا، وهو تَكْرَاراٌ قَبِيحٌ؛ فوجب حمل الإذْنِ على التَّوْفِيقِ والإعَانَةِ، فيصير التَّقْدِير: وما أرْسَلْنَا من رسُولٍ إلا ليُطَاع بتَوْفِيقِنَا وإعانَتِنَا، وهذا تَصْرِيحٌ بأنه - تعالى - ما أرَادَ من الكُلِّ طاعة الرَّسُول، بل لا يُريدُ ذلك [إلا منَ الَّذِي وفَّقَهُ اللَّه لذلك وهم المؤمِنُون، فما من لم يُوَفِّقْهُ، فللَّهِ - تعالى - ما أرَادَ ذَلِكَ منهم] .