للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

فالجوابُ من وَجْهَيْن:

الأول: أنهم قَالُوهُ على وَجْه الاسْتِهْزَاءِ؛ كقول فِرْعَوْن:

{إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: ٢٧] وقول كُفَّار قُرَيْش لمحمد - عليه السلام -: {ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: ٦] .

الثاني: أنه يجُوزُ أن يَضَعَ الله الذِّكْرَ الحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهم القَبِيح في الحِكَايَةِ عَنْهُم؛ رفعاً لعِيسى ابن مَرْيَمِ - عليه السلام - عمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَه به.

ثم قال - تعالى -: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} .

واعلم أن اليَهُودَ لمَّا زعموا أنَّهُم قتلوا المسيحَ، كذَّبَهم الله في هَذِه الدَّعْوَى، فقال ... الآية.

فإن قيل: إذا جَازَ أن يُلقي الله - تعالى - شِبْه إنْسَانٍ على إنْسَانٍ آخر، فهذا يَفْتَحُ بابَ السَّفْسَطَة، فإذا رَأيْنَا زَيْداً فَلَعَلَّهُ لَيْس بِزَيْدٍ، ولَكِنَّه ألْقَى شِبْهَ زيْد عليه، وعِنْد ذلك لا يَبْقَى الطَّلاقُ والنِّكَاحُ والمِلْكُ مَوْثُوقاً بِهِ، وأيضاً يُفْضِي إلى القَدْحِ في التَّوَاتُرِ؛ لأن خَبَر التَّواتُر إنَّما يُفِيد العِلْمَ بِشَرطِ انْتِهائِهِ إلى المَحْسُوسِ، فإذا جَوَّزْنَا حُصُول مِثْل هَذَا الشِّبْهِ في المَحْسُوسَاتِ، يُوَجَّهُ الطَّعْن في التَّوَاترُ، وذلكِ يُوجِبُ القَدْح في جَمِيع الشَّرَائع، ولَيْسَ لمُجِيبٍ أن يُجِيبَ عَنْهُ؛ بأن ذَلِك مُخْتَصٌّ بزمان الأنْبِياء -[عليهم الصلاة والسلام] لأنا نَقُول: لو صَحَّ ما ذَكَرْتُم، فذلِكَ إنَّما يُعْرَفُ بالدَّليلِ والبُرْهَانِ، فمن لَمْ يَعْلَمْ ذلك الدَّلِيلَ وذلِك البُرْهَان، وجَبَ ألَاّ يَقْطَع بِشَيءٍ من المَحْسُوسَاتٍ، فَتوَجَّه الطَّعْن في التَّوَاتُر، ووَجَبَ ألَاّ يُعْتَمدُ على شَيءٍ مِنَ الأخْبَارِ المُتَوَاتِرَة.

وأيضاً: ففي زَمانِنا إن انْسَدَّتِ المُعْجِزَات، فطَريقُ الكَرَامَاتِ مَفْتُوحٌ، وحينئذٍ يعُود الاحْتِمَال المَذْكُور في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ، وبالجُمْلَة فَفَتْحُ هذا الباب يُوجِبُ الطَّعْنَ في التَّواتُر، والطَّعْنُ في التَّوَاتُرِ يوجب الطَّعْنَ في نُبُوَّة [جميع] الأنْبِياء - عليهم الصلاة والسلام -، وإذَا كان هذا يُوجِبُ الطَّعْنَ في الأصُولِ، كان مَرْدُوداً.

فالجوابُ: قال كَثِيرٌ من المتَكَلِّمين: إن اليَهُود لمَّا قَصَدُوا قَتْلَه، رفَعَهُ الله على السَّمَاءِ، فخَافَ رُؤسَاءُ اليَهُودِ من وُقُوعِ الفِتْنَةِ بَيْن عَوامِّهِم، فأخَذُوا إنْسَاناً وقَتَلُوه وصَلَبُوهُ، وألْبَسُوا على النَّاسِ أنَّه هُوَ المَسِيحُ، والنَّاسُ ما كَانُوا يَعْرِفُون المسيح إلا بالاسْمِ؛ لأنه كَانَ قَلِيلَ المُخَالطَةِ للنَّاسِ، وإذا كان اليَهُود هُم الَّذِين ألْبَسُوا على النَّاسِ، زال السُّؤالُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>