للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

ولا يُقالُ: إن النَّصَارى يَنْقُلُون عن أسْلافِهِم أنهم شَاهَدُوهُ مَقْتُولاً؛ لأن تَوَاتُرَ النَّصَارى يَنْتَهِي إلى أقْوَام قَلِيلين، لا يبْعُد اتِّفَاقُهُم على الكَذِب، وقيل غَيْر ذلِكَ، وقد تقدَّم بَقِيَّة الكلام على الأسئِلَة الوارِدَة هُنَا عِنْد قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} في سورة آل عمران [الآية: ٥٥] .

ثم قال: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} هذا الاختلافُ فيه قولان:

الأول: أنَّهم هم النصَارى كُلُّهُم مُتَّفِقُون على أنَّ اليَهُودَ قَتَلُوهُ، إلا أنهم ثلاث فِرقٍ: نَسْطُورِيَّة، ومَلْكَانِية، ويعقوبية:

فالنَّسْطُوريَّة: زعموا أن المَسِيحَ صُلِبَ من جِهَةِ ناسُوتهِ، لا مِنْ جهة لاهُوتِه، وهو قَوْل أكْثَر الحُكَمَاء؛ لأن الإنْسَان لَيْس عِبَارَةٌ عن هذا الهَيْكَل، بل هُوَ إمَّا جِسْمٌ شَرِيفٌ في هذا البَدَنِ، وإمَّا جَوْهَرٌ رَوْحَانِيٌّ مُجَرَّدٌ في ذاتِهِ، وهُو مُدَبِّر لهَذَا البَدَن، والقَتْلُ إنَّما وَرَدَ هلى هذا الهَيْكَل، وأمَّا حَقيقَةُ نَفْس عِيسَى، فالقَتْلُ ما وَرَدَ عَليْهَا، ولا يُقَال: كُلُّ إنْسَانٍ كَذَلِك، فما وَجْه هَذَا التَّخْصِيص؟ لأنَّا نَقُول إن نَفْسَه كَانَت قُدِسيَّةً عُلْوِيَّة سَمَاوِيَّة، شديدة الإشْرَاقِ بالأنْوَارِ الإلهِيَّة، وإذا كانت كَذَلِكَ، لَمْ يَعْظُم تَألُّمُهَا بِسَبَبِ القَتْلِ وتَخْرِيب البدن، ثم إنَّها بعد الانْفِصَالِ عن ظُلْمَةِ البَدَنِ، تَتَخَلَّصُ إلى فُسْحَة السَّمواتِ وأنوار عَالَم الجلالِ، فَتَعْظُم بَهْجَتُهَا وسَعَادَتُها هُنَاكَ، وهذه الأحْوَال غَيْرُ حَاصِلةٍ لكُلِّ النَّاسِ، وإنما حَصَلَت لأشْخَاصٍ قَلِيلِين من مَبْدَإ خَلْق آدَمَ إلى قِيَامِ القِيَامَةِ، فهذا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ.

وأما الملْكَانِيَّة فَقَالُوا: القَتْل والصَّلْبُ وصَلَا إلى اللَاّهُوت بالإحْسَاسِ والشُّعُور، لا بالمُبَاشَرَةِ.

وقالت اليعقوبية: القَتْلَ والصَّلْبُ وقعا بالمسيح الذي هو جَوْهرٌ مُتَوَلِّدٌ من جَوْهَرَيْن.

فهذا شرح مَذَاهِب النَّصَارَى في هذا البَابِ، وهو المُرَاد من قوله: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} .

والمنزل الثاني: أن المُراد ب {الذين اختلفوا فِيه} اليَهُود، وفيه وجهان:

الأوَّل: أنهم لمَّا قَتَلُوا الشَّخْص المُشَبَّه به، كان المُشَبَّهُ قد ألْقِي على وَجْهِه، ولم يُلْقَ على جَسَدِهِ شِبْه جَسَد عِيسَى، فلما قَتَلُوه ونَظَرُوا إلى بَدَنِهِ، قالوا: الوجْهُ وجْهُ عِيسَى والجَسَدُ جسد غَيْرِه.

<<  <  ج: ص:  >  >>