وقوله:«مِنْهُ» أضاف ذلك الرُّوح إلى نَفْسِهِ تَشْرِيفاً، ثم قال:{فآمنوا بالله ورسله} أي: أنَّ عيسَى من رسُلِ اللَّهِ، فآمِنُوا به كإيمَانِكُم بسَائِر الرُّسُل، ولا تَجْعَلُوه إلهاً.
قوله - تعالى -: {وَلَا تَقُولُواْ ثَلَاثَةٌ} ، أي: لا تَقُولُوا آلهتُنَا ثلاثة، ف «ثَلَاثةٌ» خبر مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبر في محلِّ نصب بالقول، أي: ولا تقولوا: «آلهتنا ثلاثةٌ» قال الزَّجاج: ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} ، وقيل: تقديره: الأقَانِيمُ ثلاثةٌ، أو المعبودُ ثلاثةٌ، وقال الفارسيُّ: تقديره: الله ثالثُ ثلاثةٍ، ثم حُذف المضافُ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامَهُ، يريدُ بذلك موافقةَ قوله:{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}[المائدة: ٧٣] .
قال الفرَّاء: تقديره: ولا تقُولُوا هم ثلاثة؛ كقوله:{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ}[الكهف: ٢٢] وكانت النَّصارى [يقُولُون:] أبٌ، وابنٌ، ورُوحُ القُدس.
فصل في بيان تفسير النصارى للتثليث
قال القُرْطُبي: فرقُ النَّصارى مجتمعُون على التَّثْلِيثِ، ويقولون: إن الله جوهرٌ واحدٌ، وله ثلاثةٌ أقَانِيمَ، فَيَجْعِلُون كُلَّ أقْنُوم إلهاً، ويَعْنون بالأقانِيم: الوُجُود والحياة والعِلْم، وربما يُعَبِّرون [عن] الأقانِيمِ بالأبِ، والابْنِ، وروح القُدُسِ، فَيَعْنُونَ بالأبِ الوُجُود، وبالرُّوح الحياة، وبالابْن المسيح، في كلامٍ لهم فيه تَخْبِيطٌ.
ومحصول كلامهم يَئُولُ إلى التَّمَسُّكِ بأنَّ عيسَى إلهٌ؛ بما كان يُجْرِي اللَّه على يَديه من خَوَارِق العَادَاتِ على حَسَبِ دواعِيه وإرادَتِهِ.
قالوا: قد عَلِمْنَا خروجَ هذه الأمُورِ من مَقْدُور البَشَرِ، فينْبَغِي أن يكون المُقْتَدِر عليها مَوْصُوفٌ بالإلهيّة.
فيقال لَهُم: لو كان ذَلِك من مَقْدُوراتِهِ وكان مسْتَقِلاًّ به، كان تَخْليصُ نفسه من أعْدَائِه، ودفع شرِّهم عَنْهُ من مقدُورَاتِهِ، وليس كذلك؛ فإن اعْتَرَفُوا بذل سَقَطَ اسْتِدْلالهم وقولهم: إنه كان يَفْعَلُهَا، وإن لَمْ يُسَلِّموا فلا حُجَّة لهم - أيضاً -؛ لأنَّهم معَارضُون بمُوسى - عليه السلام -، وما كان يُجْري الله - تعالى - على يديه من الأمور العِظَامِ؛ كفلق البَحْر، وقَلْبِ العَصَا ثُعْباناً، واليد البَيْضَاء، وضَرْب الحَجَر فانْفَجَرَت مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة عَيْناً، وإنْزال المنِّ والسَّلْوَى وغير ذَلِك، وكَذَلِك ما جَرَى على أيْدِي الأنْبِياء - عليهم الصلاة والسلام -، فإن أنْكَرُوا ذَلِك، فيُنكَر ما يدَّعُونَهُ في ظُهُورِه على يَدٍ عيسى - عليه السلام -، ولا يُمْكِنُهم إثْبَات شَيْءٍ من ذلك [لعيسى؛ فإن إثْبَاتَهُ عندنا بِنَصِّ القُرآنِ، وهم يُنْكِرُون القُرْآن ويكذِّبُون من أتى به] ، ولا يُمْكِنُهم إثْبَاتُ ذلك بأخْبَارِ التَّواتُر.