وحَكَى الزَّجَّاجُ في قوله تعالى «سمَّاعُون لِلْكذبِ» وجهين:
الأوَّلُ: معناه: قَائِلُون لِلْكَذبِ، فالسمعُ يُستعملُ، والمراد منه القبولُ كما تقول: لا تَسْمعْ من فلانٍ، أيْ: لا تقبَلْ مِنْه، ومِنه:«سَمِعَ الله لِمَن حمدَهُ» ، وذلك الكذبُ الذي يُقْبَلُونَهُ هو ما يقوله رؤساؤهُمْ من الأكاذِيبِ في دينِ الله تعالى، وفي تحريفِ التوراةِ، وفي الطعنِ في سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
والوجه الثَّانِي: أنَّ المرادَ مِنْ قوله «سَمَّاعُون» نَفْسُ السَّمَاعِ، واللامُ في قوله «لِلْكَذِبِ» لامُ كَيْ أي: يَسْمعُون مِنْك لِكَيْ يَكذِبُوا علَيْكَ، وذلك أنَّهُم كانوا يَسْمَعُون مِنَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثُم يَخْرُجون ويقُولونَ: سمعْنَا منه كذا وكذا، ولم يَسْتَمِعُوا ذلك منه، وأمَّا {لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} والمعنى أنهم أعْيُنٌ وجواسِيسُ لِقَوْم آخرينَ لَمْ يأتُوك، ولم يحضرُوا عندَك لِيُبَلِّغُوا إليهم أخبارَك، وهم بَنُوا قُرَيْظَةَ والنَّضِير.
قوله تعالى:«يُحَرِّفُونَ» يجوزُ أن يكونَ صِفَة لِ «سمَّاعُون» ، أيْ: سمَّاعون مُحَرِّفُونَ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ في «سماعون» ويجوزُ أن يكون مُسْتأنَفاً لا مَحَلَّ لَهُ.
ويجُوز أن يكُونَ في مَحَلِّ جَرِّ صِفَةً ل «قَوْمٍ» ، أيْ: لقوْمٍ مُحَرِّفِينَ.
و {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} تقدم في النِّساءِ [الآية ٤٦] .
و «يَقُولُون» ك «يُحَرِّفُونَ» ويجوزُ أنْ يكُونَ حالاً من ضمير «يُحرِّفُونَ» ، والجملةُ شَرْطِيَّةٌ مِنْ قوله:«إنْ أوتيتُمْ» [مفعولة بالقول، و «هذا» مفعول ثان ل «أوتيتم» ] فالأول قائمُ مقامَ الفاعل، و «الفاء» جوابُ الشرطِ، وهي واجِبة لعدمِ صلاحيَّةِ الجزاءِ لأنْ يكونَ شَرْطاً، وكذلك الجملة من قوله:{وإن لم تؤتوه} .
فصل في معنى الآية
ومعنى {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي: من بعد أن وضعه اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - في مواضعه، أي فرض دينهُ، وأحلَّ حلالهُ وحرَّم حرامهُ. قال المفسرون: «إِنَّ رجُلاً وامرأةً من أشراف خيبرٍ زنيا، وكان حدُّ الزِّنا في التوراة الرَّجم، فكرهت اليهودُ رجمهما لشرفهما، فأرسلوا قوماً إلى رسول اللَّهِ - صلى اللَّهُ عليه وعلى آله وسلم - عن حُكمه في الزَّانيين إذا أُحصنا وقالوا: إن أمركم بالجلد فاقبلوا، وإن أمركُم بالرَّجم فلا تقبلوا. فلمّا