وقيل: هذا التخييرُ مُخْتص بالمعاهدينَ الذين لا ذمَّةَ لهم، فإن شاء حكم بينهم، وإنْ شاء أعْرض عنْهُم.
والقول الثاني: أنَّ الآيةَ عامةٌ في كل مَنْ جاء من الكُفار، ثم اختلفُوا: فمنهم من قال: إنَّ الحُكمَ ثابتٌ في سَائِرِ الأحكامَ غيرُ منسُوخٍ وهو قولُ النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ وقتادة، وعطاء، وأبِي بَكْرٍ الأصَمِّ، وأبِي مُسْلِمٍ.
وحكامُ المسلمينِ بالخيارِ في الحُكم بين أهْل الكتابِ، ومنهم مَنْ قال: إنه منسوخٌ بقوله تعالى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله}[المائدة: ٤٩] وهو قولُ ابن عباسٍ، والحسنِ، ومجاهد، وعكرِمَة [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم] ، ومذهبُ الشافعيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه يجبُ على حاكمِ المسلمينَ أنْ يحكمَ بينَ أهْل الذِّمَةِ إنْ تَحاكمُوا إليه، لأنَّ في إمضاء حُكْمِ الإسلام علَيْهم صَغَاراً لَهُم.
فأمَّا المعاهدُ إلى مُدَّةٍ، فلا يجبُ على الحاكمِ أنْ يحكمَ بينهم، بل يتخيَّرُ في ذلك.
قال ابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لم يُنْسَخْ مِنَ المائِدَةِ إلَاّ آيتَانِ: قوله تعالى: {لَا تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله}[المائدة: ٢] نسخَهَا قوله: {فاقتلوا المشركين}[التوبة: ٥] .
ثُمَّ قال:{وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم، فإذا لم يحكم بينهم وأعرض عنهم شق عليهم، وصاروا أعداءً لَهُ، فبين تعالى أنَّهُ لا تَضره عداوتُهُمْ له.
ثُمَّ قال تعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط} أيْ بالعَدْلِ: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أيْ: العادِلينَ.