وقيل: نزلت في الجِهَاد وذلك أنَّ المُنَافِقِين كَرِهوه، كما قال تعالى:{فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت}
[محمد: ٢٠] فكرهَهُ بَعْضُ المُؤمِنين.
قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ}[النساء: ٧٧] الآية، وكان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يمسك في بعض الأحَايِين عن الحثِّ عن الجهاد لِمَا يَعْلمُ من كَرَاهَةِ بعضهم فأنزَلُ اللَّهُ تعالى هذه الآية، والمَعْنَى: بَلِّغْ واصْبِر على تَبْلِيغ ما أنْزَلَهُ إلَيْك من كَشْفِ أسْرَارهم وفَضَائحِ أفعالهم، فإنَّ الله تعالى يَعْصِمُك من كَيْدِهِم ومَكْرِهِم، وقيل: نزلتَ في حجَّة الوَدَاع، لمَّا بيَّن الشَّرائِع والمَنَاسِكَ قال: هل بلَّغْتُ؟ قالُوا: نَعَمْ قال: اللَّهُم فاشْهَدْ، وقِيلَ: لمَّا نزلَتْ آيَة التَّخْيِير وهِيَ قوْلُه تعالى: {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا}[الأحزاب: ٢٨] فلم يَعْرِضْهَا عليهنَّ خَوْفاً من اختيارِهِنَّ للدُّنْيَا فنزلت.
قوله تعالى:{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ، أي: وإنْ لم تفعل التبليغ، فحذف المفعول به، ولم يقل:«وإن لم تبلّغْ فما بلّغتَ» لما تقدَّم في قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} في البقرة [آية: ٢٤] ، والجوابُ لا بُدَّ أن يكون مغايراً للشرط؛ لتحصُل الفائدةُ، ومتى اتَّحدَا، اختلَّ الكلامُ، لو قلتَ:«إنْ أتَى زيدٌ، فقدْ جَاءَ» ، لم يَجُزْ، وظاهرُ قوله:«وإنْ لَمْ تَفْعَلْ، فما بَلَّغْتَ» اتحادُ الشرطِ والجزاء، فإن المعنى يَئُولُ ظاهراً إلى قوله: وإن لم تفعل، لم تفعل، وأجاب الناسُ عن ذلك بأجوبةٍ؛ أسَدُّها: ما قاله الزمخشريُّ، وقد أجاب بجوابَيْنِ:
أحدهما: أنه إذا لم يمتثلْ أمر اللَّهِ في تبليغِ الرِّسالاتِ وكتَمَها كُلَّها؛ كأنه لم يُبْعَثْ رَسُولاً - كان أمراً شنيعاً لا خَفَاء بشناعته، فقيل: إنْ لم تُبَلِّغْ أدنَى شيء، وإن كلمةً واحدةً، فكنْتَ كمَنْ رَكِبَ الأمر الشنيعَ الذي هو كتمانُ كُلِّهَا، كما عَظَّمَ قَتْلَ النفْسِ في قوله:{فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً}[المائدة: ٣٢] .
والثاني: المراد: وإنْ لَمْ تَفْعَلْ ذلك، فلك ما يُوجِبُ كتْمَانَ الوَحْي كلِّه من العقابِ، فوضَع السَّبَبَ مَوْضِعَ المُسَبِّبِ؛ ويؤيده:«فأوْحَى الله إليَّ: إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رسَالَاتِي، عَذَّبْتُكَ» .
وأجاب ابن عطية: أي: وإنْ تركْتَ شيئاً، فقد تركْتَ الكلَّ، وصار ما بَلَّغْتَ غيرَ معتدٍّ به، فمعنى «وإنْ لَمْ تَفْعَلْ» : «وإنْ لَمْ تَسْتَوْفِ» ؛ ونحوُ هذا قولُ الشاعر:[الطويل]