للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

فصل

اعلم أنَّهُ تعالى وَصَفَهُمْ بثلاثِ دَرَجَات في الضَّلالِ، فَبَيَّنَ أنَّهُم كانوا ضَالِّين من قبل.

والمراد رُؤسَاء الضَّلالةِ من فَرِيقَيِ اليهُود والنَّصَارى لِمَا تَبَيَّنَ، والخطاب لِلَّذِين في عَصْرِ النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، نُهُوا عن اتِّباعِ أسلافِهِم فيما ابْتَدَعُوه بأهْوَائِهِم، فتبيَّن أنهم كانوا مُضِلِّينَ لغيرهم، ثم ذكروا أنَّهُمْ استَمَرُّوا على تلك الحَالَةِ، حتى أنَّهم الآن ضَالُّون كما كَانُوا، ولا نجد حالةً أقْرَبَ إلى البُعْدِ من اللَّه تعالى، والقُرْب من عِقَابِ اللَّهِ من هذه الحالة - نعُوذُ باللَّه منها -.

ويحتَملُ أن يكُون المُرَاد أنَّهُم ضَلُّوا وأضَلُّوا، ثمَّ ضلُّوا بسبب اعتقادِهِمْ في ذلك الإضلال أنَّهُ إرشادٌ إلى الحقِّ، ولمَّا خَاطَبَهُمْ بهذَا الخطابِ وصَفَ أسلافهم، فقال تعالى: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} .

قال أكثر المفسِّرِين: يعني أهْلَ «أيلة» لمَّا اعْتَدُوا في السَّبْتِ قال داوُدُ: «اللَّهُمَّ الْعَنْهُم واجْعلْهُم آيَةً» فَمُسِخُوا قِرَدَةً، وأصحاب المائدة لما أكلُوا من المائدة، ولم يُؤمِنُوا، قال عيسى - عليه السلام -: اللَّهُمَّ العَنْهُم كما لَعَنْتَ أصْحَابَ السَّبْتِ، فأصْبَحُوا وقد مسخوا خنازير، وكانوا خمسَةَ آلافِ رَجُلٍ ما فيهمُ امْرأةٌ ولا صَبِيٌّ.

قال بعضُ العُلَماء: إنَّ اليَهُود كانُوا يفْتَخِرُون بأنَّهُم من أوْلاد الأنْبِيَاء، فَذَكَر اللَّهُ هذه الآيَة؛ لتَدُلَّ على أنَّهُمْ مَلْعُونِين على ألْسِنَةِ الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام -.

وقيل: إنَّ داوُد وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - بَشَّرَا بِمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، ولعنَا من يُكَذِّبُه وهو قولُ الأصَمِّ.

قوله تعالى: {مِن بني إِسْرَائِيلَ} : في محلِّ نصْبٍ على الحال، وصاحبُها: إمَّا «الَّذينَ» وإمَّا واو «كَفَرُوا» وهما بمعنى واحدٍ، وقوله: {على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى} المرادُ باللسانِ الجارحةُ، لا اللغةُ، كذا قال أبو حيان، يعني: أنَّ الناطِقَ بلعْنِ هؤلاء لسانُ هذيْن النبيَيْنِ، وجاء قوله «عَلَى لِسَانِ» بالإفرادِ دون التثنيةِ والجَمْعِ، فلم يَقُلْ: «عَلَى لِسَانَيْ» ولا «عَلَى ألْسِنَةِ» لقاعدةٍ كليةٍ، وهي: أن كلَّ جزأيْنِ مفردَيْنِ من صاحبيهما، إذا أُضِيفَا إلى كليهما من غير تفريقٍ، جازَ فيهما ثلاثةُ أوجه: لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ -، ويليه التثنيةُ عند بعضهم، وعند بعضهم الإفرادُ مقدَّمٌ على التثنية، فيقال: «قطَعْتُ رُءُوسَ الكَبْشَيْنِ» ، وإنْ شئْتَ: رَأسَي الكَبْشَيْن، وإن شئْتَ: رَأسَ الكَبْشَيْنِ، ومنه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: ٤] .

فقولي «جُزْأيْن» : تحرُّزٌ من شيئين ليْسَا بجزأيْن؛ نحو: «دِرْهَمَيْكُمَا» ، وقد جاء: «

<<  <  ج: ص:  >  >>