قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في روايَةِ عطاء: يريد النَّجاشي وأصحابه، قرأ عليْهِمْ جَعفرُ بالحبَشَةِ «كهيعص» فأخَذَ النجاشِيُّ نَبْتَةً من الأرض، وقال: واللَّه ما زَادَ على ما قال في الإنْجِيلِ مِثْل هذه مثلاً، فما زالوا يَبْكُون، حتى فََرَغَ جَعْفَرُ من القراءة، واختارَه ابْنُ عَطِيَّة، قال:«لأنَّ كل النصارى ليسوا كذلك» .
و «مَا» في «مَا أنْزِلَ» تحتملُ الموصولةَ، والنكرةَ الموصوفة، وقوله تعالى:«تَرَى» بصَريَّةٌ، فيكون قوله {تَفِيضُ مِنَ الدمع} جملةً في محلِّ نصبٍ على الحالِ.
وقرئ شاذًّا:«تُرَى» بالبناء للمفعول، «أعْيُنُهُمْ» رفعاً، وأسند الفيض إلى الأعين؛ مبالغةً، وإن كان الفائضُ إنَّمَا هو دمعها لا هِيَ؛ كقول امرئِ القيسِ:[الطويل]
وإلى هذين المعنَيَيْن نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال:«فإنْ قلت: ما معنى {تَفِيضُ مِنَ الدمع} ؟ قلتُ: معناه تَمْتَلِئُ من الدمْع حتَّى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ أنْ يتملئَ الإناءُ حتَّى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه، فوضَعَ الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء، وهو من إقامةِ المسبَّب مُقام السَّبَب، أو قصدت المبالغةَ في وصفهم بالبكاء، فجعلْتَ أعينهم، كأنها تفيضُ بأنفسها، أي: تسيلُ من الدمعِ؛ من أجلِ البكاءِ، من قولك، دَمَعتْ عَيْنُهُ دَمْعاً» .
قوله تعالى «مِنَ الدَّمْعِ» فيه أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه متعلِّقٌ ب «تَفِيضُ» ، ويكون معنى «مِن» ابتداء الغاية، والمعنى: تَفِيضُ من كثرة الدمع.
والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف؛ على أنه حالٌ من الفاعلِ في «تَفِيضُ» قالهما أبو البقاء، وقَدَّر الحالَ بقولك:«مَمْلُوءَةً من الدَّمْعِ» ، وفيه نظر؛ لأنه كونٌ مقيَّدٌ، ولا يجوزُ ذلك، فبقيَ أن يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً، أي: تفيضُ كائنةً من الدمْعِ، وليس المعنى على ذلك، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي، فإن قيل: هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكون «مِنَ الدَّمْعِ»