تمييزاً؛ لأنهم لا يَشْترطُونَ تنكيرَ التمييز، والأصل: تفيض دمعاً؛ كقولك:«تَفَقَّأ زَيْدٌ شَحْماً» ، فهو من المنتصب عن تمام الكلام؟ قيل: إن ذلك لا يجوزُ، لأنَّ التمييز، إذا كان منقولاً من الفاعلية، امتنع دخولُ «مِنْ» عليه، وإن كانت مقدَّرة معه، فلا يجوز:«تَفَقَّأ زَيْدٌ من شَحْمٍ» ، وهذا - كما رأيت - مجرورٌ ب «مِنْ» ؛ فامتنع أن يكون تمييزاً، إلا أن الزمخشريَّ في سورة براءة [الآية ٩٢] جعله تمييزاً في قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} ، ولا بدَّ من نقلِ نصِّه لتعرفه؛ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: {تَفِيضُ مِنَ الدمع} كقولك: «تَفِيضُ دَمْعاً» ، وهو أبلغُ من قولِك: يفيضُ دَمْعُها؛ لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائضٌ، و «مِنْ» للبيان؛ كقولك:«أفديكَ مِنْ رَجُلٍ» ، ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز «؛ وفيه ما قد عرفْتَه من المانِعَيْنِ، وهو كونُه معرفةً، وكونُه جُرَّ ب» مِنْ «وهو فاعلٌ في الأصْل، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ؛ فعلى هذا: تكونُ هذه الآية الكريمةُ كتلك عنده، وهو الوجهُ الثالث.
الرابع: أنَّ» مِنْ «بمعنى الباء، أي: تفيضُ بالدمْعِ، وكونُها بمعنى الباء رأيٌ ضعيفٌ، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى:{يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ}[الشورى: ٤٥] أي: بِطَرْفٍ؛ كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى» مِنْ «؛ كقوله:[الطويل]
قوله:{مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} «مِنْ» الأولَى لابتداءِ الغاية، وهي متعلقةٌ ب «تَفِيضُ» ، والثانيةُ يُحْتملُ أن تكونَ لبيانِ الجنس، أي: بَيَّنَتْ جنس الموصولِ قبلَها، ويُحتملُ أن تكون للتبعيضِ، وقد أوضح الزمخشريُّ هذا غايةَ الإيضاح؛ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فإنْ قلتَ: أيُّ فَرْقٍ بين» مِنْ «و» مِنْ «في قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} ؟ قلتُ: الأولَى لابتداء الغاية؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ، وكان من أجله وبسببه، والثانيةُ: لبيان الموصول الذي هو» ما عَرَفُوا «، وتحتمل معنى التبعيض؛ على أنهم عرفوا بعض الحقِّ، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كلَّه، وقرَءُوا القرآن، وأحاطُوا بالسنة» . انتهى، ولم يتعرَّض لما يتعلَّق به الجارَّان، وهو يمكن أنْ يُؤخَذَ من قوةِ كلامه، ولْنَزِدْ ذلك إيضاحاً، و «مِن» الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ؛ على أنها حال من «الدَّمْع» ، أي: في حالِ كونه ناشئاَ ومبتدئاً من معرفةِ الحقِّ، وهو معنى قول الزمخشريِّ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ، ولا يجوزُ أن يتعلَّق ب «تَفِيضُ» ؛ لئلا يلزم تعلُّقُ حرفَيْن مُتَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى بعامل واحد؛ فإنَّ «مِنْ» في «مِنَ الدَّمْعِ» لابتداءِ الغاية؛ كما تقدَّم، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ «مِنْ» في «مِنَ الدَّمْعِ» للبيانِ، أو بمعنى الباء، فقد يجوز ذلك، وليس معناه في الوضُوحِ