فإن قيل: الملائكة لا يعلمون إلا بما عملوا، ولا يسبقونه بالقول، فكيف قالوا:» أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا «.
فالجواب: اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: إنهم ذكروا ذلك عن ظَنّ قياساً على حالِ الجِنّ الذين كانوا في الأرض قبل آدم عليه الصَّلاة والسّلام، قاله ابن عباس، والكلبي وأحمد بن يحيى.
الثَّاني: أنهم عرفوا خلقة آدم، وعرفوا أنه مركب من الأخلاط الأربعة فلا بد وأن يتولد منه المشهور بالغَضَبِ، فيتولّد الفساد من الشَّهْوَةِ، وسَفْكِ الدماء من الغضب.
ومنهم من قال: إنهم قالوا ذلك على يَقِيْنِ، وهو مروي عن «ابن معود» وناس من الصحابة، وذكروا وجودهاً:
أحدها: أنه - لما قال:«إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةٌ» قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة.
قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضاً، فعند ذلك قالوا:«أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» ؟
إما على طريق التَّعجُّب من استخلاف الله من يعصيه، أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه، وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والاستكبار للفعلين جميعاً الاستخلاف والعصيان.
وثانيها: أنه - تعالى - كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلقٌ عظيم أفسدوا فيها، وسفكوا الدماء.
وثالثها: قال ابن زَيْدٍ: لما خلق الله النَّار خافت الملائكة خوفاً شديداً، فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه النار؟ قال: لمن عَصَانِي من خلقي، ولم يَكُنْ لله يومئذ خلقٌ سوى الملائكة، ولم يكن في الأرض خلق ألبتة، فلما قال:«إني جاعل في الأرض خليفةٌ» عرفوا أن المعصية تظهر منهم.
ورابعها: لما كتب القلم في اللوح [المحفوظ] ما هو كائن إلى يوم القيامة، فلعلّهم طالعوا اللّوح، فعرفوا ذلك.
وخامسها: إذا كان مَعْنَى الخليفة من يكون نائباً لله في الحكم والقضاء، والاحتياج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع، والتَّظَالم، فكان الإخبار عن وُجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشَّرِّ بطريق الالتزام.