للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

بهاتين الحالين، فيكون الفعلان] أيضاً داخلين في التمنّي.

وقد اسْتَشْكَلَ الناسُ هذهين الوجهين، بأن التَّمَنِّي إنشاءن والإنْشَاءُ لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب، وإنما يدخلان في الأخبار، وهذا قد دَخَلَهُ الكَذِبُ لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: ٢٨] وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه:

أحدهما: ذكره الزمخشري - قال: هذا تَمَنِّ تضمَّنَ معنى العِدَة، فجاز أن يدخله التَّكْذِيبُ كما يقول الرَّجُلُ:» ليت اللَّه يرزقني مالاً فأحْسِن إليك، وأكَافِئَكَ على صَنيعِكَ «فهذا مُتَمَنِّ في معنى الواعد، فلو رُزِقَ مالاً ولم يُحْسِنَ إلى صاحبه، ولم يكافئه كذب، وصَحَّ أن يقال له كاذب، كأنه قال: إن رزقني اللَّهُ مالاً أحسنتُ إليك.

والثاني: أن قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: ٢٨] ليس متعلّقاً بالمتمني، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تبارك وتعالى، بأنهم دَيْدَنهم الكَذِبُ وهجيراهم ذلك، فلم يَدْخُلِ الكذبُ في التمنِّي، وهذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح.

والثالث: أنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ التمنِّي لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب، بل يدخلانه، وعُزِيَ ذلك إلى عيسى بن عُمَرَ، واحتج على ذلك بقول الشاعر [حيث قال] : [الطويل]

٢١٣٩ - مُنَى إنْ تَكُنْ حَقَّا تَكُنْ أحْسنَ المُنَى ... وإلَاّ فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنا رَغْدَا

قال: «وإذا جاز أن تُوصَفَ المُنَى بكونها حَقّاً جاز أن تُوصَفَ بكونها باطلاً وكذباً» .

وهذا الجواب سَاقِطٌ جداً، فإن الذي وُصِفَ بالحَقِّ إنما هو المُنَى، و «المنى» : جمع «مُنْيَة» و «المُنْيَةُ» تُوصَفُ بالصِّدقِ والكذب مجازاً، لأنها كأنها تَعِدُ النَّفْسَ بوقوعها، فيقال لما وقع منها: صَادِق، ولِمَا يَقَعْ منها: كاذب، فالصِّدْق والكذب إنما دَخَلا في المُنْيَةِ لا في التمني.

والثالث من الأوجه المتقدمة: أن قوله: «ولا نُكَذِّبُ» خبر لمبتدأ محذوف، والجملة اسْتئنَافِيَّةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها، وإنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجلمة المُشْتملة على أدَاةِ التمني وما في حيِّزهَا، فليستْ داخلةً في التَّمَنِّي أصلاً، وإنما أخبرَ الله - تبارك وتعالى - عنهم أنهم أخْبَرُوا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربِّهم، وأنَّهُمْ يكونون من المُؤمنينَ، فتكون هذه الجملة وما عُطِفَ عليها في مَحَلِّ نصبٍ بالقول، كأنَّ التقدير: فقالوا: يَا لَيْتَناَ نُرَدُّ وقالُوا: نحن لا نُكَذِّب ونكُون من المؤمنين.

<<  <  ج: ص:  >  >>