واختار سيبويه هذا الوجه وشبَّهَهُ بقولهم:«دَعْنِي ولا أعُودُ» ، أي: وأنا لا أعود تَرَكْتَنِي أو لم تتركني، أي: لا أعود على كُلِّ حالٍ، كذلك معنى الآية: أخْبروا أنهم لا يُكَذِّبُون بآيات ربهم، وأنهم يَكُونُون من المؤمنين على كل حالٍ، رُدُّوا أوة لم يُرَدُّوا.
وهذا الوجهُ وإن كان النَّاسُ قد ذكروه ورجَّحثوه، وأختار سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما مَرَّ، فإن بعضهم اسْتَشْكَلَ عليه إشْكَالاً، وهو: أنَّ الكَذِبِ لا يَقَعُ في الآخرة، فكيف وُصِفُوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم «ولانُكَذِّب ونكون» ؟
وقد أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أن قوله {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون}[الأنعام: ٢٨] اسْتيثَاقٌ لذَمِّهِمْ بالكذب، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّمَ ذلك آنفاً.
والثاني: أنهم صَمَّوا في تلك الحَالِ على أنهم لو رُدُّوا لما عادوا إلى الكُفْرِ لما شَاهَدُوا من الأهْوالِ والعقوبات، فأخبر اللَّهُ - تعالى - أنَّ قولهم في تلك الحَالِ:«ولا نكذِّبُ» وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغير على تقدير الرَّدِّ، ووقوع العَوْدِ، فيصير قولهم:«ولا نكذّب» كذباً، كما يقول اللِّصُّ عند ألم العقوبة:«لا أعود» ويعتقد ذلك ويصمم عليه، فإذا خُلِّصَ وعاد كاذباً.
وقد أجاب مَكّي أيضاً بجوابين:
أحدهما [قريب] مما تقدَّم، والثاني لغيره، فقال - أي لكاذبون في الدُّنْيَا في تكذيبهم الرُّسُلَ، فإنكارهم البَعْثَ للحال [التي] كانوا عليها في الدُّنْيَا، وقد أجاز أبو عمرو وغيره وُقُوعَ التكذيب في الآخرة، لأنهم ادَّعَوْا أنهم لو رُدُّوا لم يُكَذَّبوا بآيات الله، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف يكون، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكدَّبوا بآيات اللِّهِ، فأكذبهم اللَّهُ في دَعْوَاهُمْ.
وأمَّا نَصْبُهُمَا فبإضمار «أنْ» بعد الواو التي بمعنى «مع» ، كقولك:«ليت لي مالاً وأنْفِقَ منه» فالفعل منصوب بإضمار «أن» ، و «أنْ» مصدرية ينسبِكُ منها ومن الفعل بعدها مَصْدرٌ، و «الواو» حرف عَطْفٍ، فيستدعي معطوفاً عليه، وليس قبلها في الآية إلَاّ فعل، فكيف يُعْطَفُ اسْمٌ على فعل؟ فلا جَرَمَ أنْ نقدِّر مصدراً متوهّماً يُعْطَفُ هذا المصدر المُنْسَبكُ من «أنْ» وما بعدها عليه، والتقديرُ: يا ليتنا لنا رَدُّ، وانتفاء تكذيب بآيات ربنا وكَوْنُ من المؤمنين أي: ليتنا لنا ردٌّ مع هذين الشيئين، فيكون عدم التكذيب والكَوْنُ من