للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

واختارها بضعهم لموافقتها لما أُجْمَعَ عليه في «يوسف» {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} [يوسف: ١٠٩] ، وفي مَصَاحِفِ غيرهم بلامين. و «خَيْرٌ» يجوز أن يكون للتفضيل، وحُذِفَ المُفَضَّلُ عليه لِلْعِلْم به، أي: خَيْرٌ من الحياة الدنيا، ويجوز أن يكون لِمُجَرَّدِ الوَصْفِ بالخيرية كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: ٢٤] و «للذين يتَّقون» متعلّق بمحذوف؛ لأنه صَفَةٌ ل «خير» والذي ينبغي -[أو يتعيَّن]- أن تكون «اللام» للبيان، أي: أعني للذين، وكذا كُلُّ ما جاء من نَحْوِهِ، نحو: {خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: ٤] .

فصل في معنى الخيرية

ذكروا في وَجْهِ هذه الخَيْريَّةِ وجوهاً:

أحدهما: أنَّ خيرات الدينا [خسيسة وخيرات الآخرة شريفة وبيان ذلك في وُجُوه:

الأوَّل: أن خيرات الدنيا] ليس إلَاّ قَضَاءَ الشَّهْوَتَيْنِ، وهي في نهاية الخَسَاسَةٍ؛ لأن الحيانات الخَسِيسَة تشارك الإنسان فيها، بل ربما [كان] أمرُ تلك الحيوانات فيها أكْمَلَ من أمْرِ الإنسان، فالجَمَلُ أكثر أكْلاً، والدِّيكُ والعصفور أكثر وقاعاً، والذِّئْبُ أقوى على الفَسَادِ ة والتَّمْزِيقِ، والعَقْرَبُ أقوى لعى الإيذَاءِ، ومما يَدُلُّ على خَسَاسَتِهَا أنها لو كانت شَرِيفةً لكان الإكثار منها يوجبُ زيادة الشرف فكان يجب أن يكون الإنسان الذي أذهب عمره في الوِقَاعِ والأكْلِ أشْرَفَ الناس وأعْلاهُمْ دَرَجَةً، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمْرُ كذلك، بل مثلُ هذا الإنسان يكون [ممقوتاً] مُسْتَحْقَراً، يوصفُ بأنه بَهِيمَةٌ أو كَلْبٌ، أو أخَسُّ، وذلك لأن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال، بل يُخْفُونَهَا، ولذلك عادة العُقَلاءِ عند الاشتغل بالوقَاع يختفون عن النَّاسِ، وأيضاً فإن الناس إذا شَتَمَ بعضم بعضاً لا يذكرون فيه إلَاّ الألقَاظ الدَّالة على الوقَاع، وأيضاً فإن هذه [اللَّذات] سَرِيعَةُ الانْقِضَاءِ والاسْتِحَالَةِ، فثبت بهذه الوجود خَسَاسَةُ هذه المَلَذَّاتِ.

وأما السَّعادات الرُّوحانية، فإنها سعادات عالية شريفةٌ، باقيةٌ مُقَدَّسَةٌ، ولذلك فإن جميع الخَلْقِ إذا تَخَيَّلُوا في إنسان كثرة العِلْمِ والدِّين وشدِّة الانقباض عن اللِّذاتِ الجسمانية، فإنهم بالطَّبْعِ يجيبونه ويخدمومنه، ويعدونه [أنفسهم] عِبيداً لذلك الإنسان، وأشقياء بالنسبة إليه، وذلك يَدُلُّ عليه خَسَاسَةِ اللَّذاتِ الجسمانية، وكمال مرتبة اللذات الروحانية.

الأمر الثاني: في [بيان] أنَّ خَيْرَاتِ الآخرة أفْضَلُ من خيرات الدُّنْيَا، وهو أن يقال:

<<  <  ج: ص:  >  >>