فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلَاّ الإيمان منهم وظاهر هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم والتناقض بين الدلائل مُمْتَنِع، فوجب الجَمع، وطَريقُه أن نقُول: إنه - تبارك وتعالى - شَاء من الكُلِّ الإيمان الذي يَفْعَلُونه على سَبيل الاخْتيار، وأنَّه - تعالى - ما شاء منهم الإيمان على سبيل الإلجَاء والقَهْر، وبهذا الطَّريق زال الإشْكَال، وهذا كلامٌ ضعيفٌ من وُجُوه:
الأول: أن الإيمان الَّذِي سمَّوْه بالإيمان الاخْتِيَاري إن عَنُوْا به أنَّ قُدْرَته صَالِحَة إلى الإيمان والكُفْر على السَّويَّة، ثمَّ إنه يَصْدر عَنْها الإيمان دُون الكُفْر لا لداعية مُرَجَّحَة، ولإرادة مُمَيِّزة، فَهَذَا قَوْل برجْحَان أحَد طَرَفي المُمْكن على الآخر، لا لِمُرَجِّح وهو مُحَال، وأيضاً: فبتقدير أنْ يَكُون ذلك مَعْقُولاً في الجُمْلَة، إلَاّ أنَّ حُصُول ذَلِك الإيمان لا يَكُون منه، بل يَكُون حَادِثاً لا لِسَبَب ولا مُؤثِّر أصْلاً؛ أن الحَاصِل هَنَا لي إلَاّ القُدْرَة، وهي بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّيْن على السَّويَّة، ولم يَصْدر من هَذَا القدر تَخْصِيً لأحد الطَّرَفَيْن على الآخر بالوُقُوع والرُّجْحَانِ، ثم إنّ احد الطَّرفين قد حصل بنفْسِه، فهذا لا يَكُون صَادراً منه، بل يكون صادراً لا عن سَبَب ألْبَتَّةَ، وذلك يُبْطِل القَوْل بالفِعْل، والفَاعِل، والتَّأثِير والمؤثِّر أصْلاً، وذلك لا يَقْوله عَاقِل، وأمَّا إنْ كان هذا الذي سَسَّوه بالإيمان الاخْتِيَاري، هو أنَّ قُدْرَته وإن كانت صَالِحة للضَّدَّين، إلَاّ أنَّه لا تَصِير مَصْدراً للإيمان، إلَاّ إذا انْضَمَّ إلى تِلْك القُدْرَة حُصُول داعِيَة الإيمان، فهذا قَوْلٌ بأن مَصْدر الإيمان هو مَجْمُوع القُدْرَة على الدَّاعي، وذلك المَجْمُوع مُوجبٌ للإيمان، فهذا عين ما يسمونه بالجبر، وأنتم تنكرونه، فثبت أن هذا الذي سموه بالإيمان الاخْتِيَاريِّ لم يَحْصُل منه مَعْنى مَعْقُول مفهوم، وهذا كلام في غاية القُوَّة.
الوجه الثاني: سلَّمنا أن الإيمان الاخْتِيَاري متميِّزٌ عن الإيمان الحَاصِل بتَكْوِين اللَّه - تعالى -، إلَاّ أنا نَقُول قوله - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة} وكذا {مَّا كَانُواْ ليؤمنوا} مَعْنَاه: ما كانوا لِيُؤمِنُوا إيماناً اخْتِيَاريّاً، بدلِيل أنَّ عند ظُهُور هذه الأشْيَاء لا يَبْعُد أن يُؤمِنُوا إيماناً على سَبِيل الإلْجَاء والقَهْر، فَثَبت أن قوله:{مَّا كَانُواْ ليؤمنوا} على سَبِيل الاخْتِيَار، ثُمَّ استَثْنَى عَنْه، وقال:«إلَاّ أنْ يَشَاءَ اللَّه» والمُسْتَثْنَى يَجِبُ أن يَكُون من جِنْس المُسْتَثْنى مِنْه، والإيمان الحَاصِل بالإلْجَاء والقَهْر ليس من جِنْس الإيمان الاخْتِيَاريّ، فَثبت أنَّه لا يجُوز أنْ يَكُون المُرَاد منه الإيمان الاخْتِيَاري؛ وحينئذٍ يتوجَّه دَلِيل أهل السُّنَّة، وتَسْقُط أقوال المُعْتَزلَة.
فصل ف دحض شبهة المعتزلة
قال الجُبَّائي: قوله - تبارك وتعالى -: {إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} يدلُّ على حُدُوث