فإن قيل: إن الرحيم الحكيم مِنَّا لا يجوز أن يفعل ذلك.
قلنا: لأن فوقه آمراً يأمره وناهياً ينهاه، وربنا تعالى لا يسألُ عمَّا يفعل وهم يُسألُونَ، ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخَالقِ، وبالحقيقة فإن الأفعال كلها لله تعالى، والخلقُ بأجمعهم له، يصرفهم كيف يشاء ويحكُم فيهم بما أراد، وهذا الذي يجدُهُ الآدميّ فإنَّما هو من رقة الجبلَّةِ، وشفقة الجنسيَّةِ وحُبِّ الثَّناءِ والمدح، والباري تعالى منزَّهٌ من ذلك.
وأطبقت المعتزلةُ على أنَّهُ لا يجوزُ تفسير هذه الآية بهذا الوجه، واحْتَجُّوا على فساده بوجوه:
الأول: قالوا إن قوله: {مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ}[الأعراف: ١٧٢] ف «مِنْ ظُهُورهمْ» بدلٌ من قوله «بَنِي آدمَ» فيكون المعنى: وإذْ أخذ ربُّكَ من ظُهورِ بَنِي آدَمَ، وعلى هذا التقدير: فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً.
الثاني: لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم ذرية لما قال: «مِنْ ظُهورِهمْ» بل قال: من ظهره؛ لأنَّ آدم ليس له إلا ظهر واحد، وكذلك قوله:«ذُريَّتَهُمْ» ولو كان المرادُ آدم لقال: ذُرّيته.
الثالث: أنَّهُ تعالى حكى عن أولئك الذُّريَّةِ أنهم قالوا: {إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ}[الأعراف: ١٧٣] وهذا لا يليق بأولاد آدم؛ لأنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام ما كان مشركاً.
الرابع: أنَّ أخذ الميثاق لا يمكن إلَاّ من العاقِلِ، ولو كان أولئك الذر عقلاء، وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة فإنَّهُ لا يجوزُ مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كليّاً لا يتذكر منها قليلاً ولا كثيراً، وبهذا الدليل يبطلُ القول بالتَّناسخ؛ لأنَّا نقولُ لو كانت أرواحنا قد جعلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى، لوجب أن نتذكَّرَ الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر، وحيثُ لم نتذكر كان القول بالتَّناسخ باطلاً.
وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة فوجب القول بمقتضاه، فلو جاز أن يقال: إنَّا كنا في وقت الميثاق أعطينا العهد مع أنَّا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه، فلمَ لا يجوز أيضاً أن يقال: إنَّا كنَّا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال.
الخامس: أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرَّة من ذرات الهباء أن تكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتَّصانيف الكثيرة في العلوم الدَّقيقة، وفتح هذا الباب يؤدِّي إلى التزام الجماداتِ، وإذا ثبت أن هذه البنية شرط لحصول الحياة، فكل واحد من تلك الذّرات لا يمكن أن يكون عاقلاً عالماً فاهماً إلَاّ إذا