للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

فإن قيل: أليس قد قال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: ٣٣] فكيف قال ههنا: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} ؟ .

فالجواب: المراد من قوله {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: ٣٣] عذاب الاستئصال والمراد من قوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} عذاب القتل والحرب، والفرق بين البابين: أنَّ عذابَ الاستئصال قد يتعدَّى إلى غير المذنب، وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب، أمَّا عذابُ القتل، فالظَّاهر أنه مقصورٌ على المُذْنب.

فصل

احتج أهل السنة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى بقوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} فإنَّ المراد من هذا العذاب، القتل والأسر، وظاهر هذا النص يدلُّ على أنَّ ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى، يدخله في الوجود على أيدي العباد.

وأجاب الجبائيُّ عنه فقال: لو جاز أن يقال إنَّهُ يعذب الكُفَّار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكُفار، ولجاز أن يقال: إنَّهُ يكذب الأنبياء على ألسنة الكُفَّار، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم، لأنَّه تعالى خالق لذلك، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك عند المجبرة، علم أنَّه تعالى لم يخلق أعمال العباد، وإنَّما نسب ما ذكر إلى نفسه على سبيل التوسع من حيثُ إنَّهُ حصل بأمره وألطافه، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير.

وأجيب: بأنَّ الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك، إلَاّ أنا لا نقوله باللِّسانِ، كما نعلم أنه تعالى هو الخالقُ لجميع الأجسام، ثم إنا لا نقول: يا خالق الأبوال والعذرات، ويا مكون الخنافس، والديدان، فكذا ههنا، وأيضاً: أنا توافقنا على أن الزِّنا واللِّواط وسائر القبائح، إنما حصلت بتقدير الله وتيسيره، ثمَّ لا يجوز أن يقال: يا مسهل الزنا واللواط، ويا دافع الموانع عنها.

وأما قوله: المراد إذن الإقدارُ، فهذا صرف للكلام عن ظاهره، وذلك لا يجوزُ إلَاّ لدليل قاهر، والدَّليل القاهر من جانبنا، فإنَّ الفعل لا يصدر إلَاّ عند الدَّاعية الحاصلة، وحصول تلك الدَّاعية ليس إلَاّ من الله تعالى.

وثانيها: قوله: «ويُخْزِهِمْ» أي: يذلهم بالأسر والقهر، قال الواحديُّ «إنهم بعد قتلكم إيَّاهم» وهذا يدلُّ على أنَّ الإخزاء وقع بهم في الآخرة، هذا ضعيف لما تقدَّم من أنَّ الإخزاء حاصلٌ في الدنيا.

وثالثها: قوله: «وينصُرْكُم عليْهِمْ» أي: لمَّا حصل لهم الخزي، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين [بسبب] كونهم قاهرين.

فإن قيل: لمَّا كان حصُولُ الخزي مستلزماً لحصول النصر، كان إفراده بالذِّكرِ عبثاً.

فالجوابُ: ليس الأمر كذلك؛ لأنه يحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة

<<  <  ج: ص:  >  >>