وقال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالفُ أقوال الأحبار والرهبان؛ فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتابِ الله تعالى. فإن قيل: إنَّه تعالى لمَّا كفرهم بسبب طاعتهم للأحبار والرُّهبان، فالفاسقُ يطيع الشيطانَ؛ فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارجِ.
فالجوابُ: أنَّ الفاسق إن كان يطيع الشيطان إلَاّ أنَّه لا يُعظِّمه، لكنه يلعنه، فظهر الفرق.
فصل
قوله {والمسيح ابن مَرْيَمَ} عطف على» رُهبانهم «، والمفعول الثَّاني محذوف، والتقدير: اتخذ اليهودُ أحبارهم أرباباً، والنصارى رهبانهم والمسيح ابن مريم أرْبَاباً، وهذا لأمْنِ اللَّبْس خلط الضمير في» اتَّخَذُوا «، وإن كان مقسماً لليهود والنَّصارى، وهذا مراد أبي البقاءِ في قوله:» أي: واتخذوا المسيح ربًّا، فحذف الفعل وأحد المفعولين «. وجوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي: وعبدُوا المسيح ابن مريم.
ثم قال:{وَمَآ أمروا إِلَاّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لَاّ إله إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: سبحانه أن يكون له شريك في الأمر والتكليف، وفي كونه معبوداً، وفي وجوب نهاية التعظيم.
قوله:{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} الآية.
ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعاً ثالثاً من أفعالهم القبيحة، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
والمراد من «النور» قال الكلبيُّ: هو القرآن، أي: يردُّوا القرآن بألسنتهم تكذيباً. وقيل: النور: الدَّلائل الدَّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه. وسمى الدلائل نوراً؛ لأنَّ النور يهتدي به إلى الصَّواب.
قوله:{ويأبى الله إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}«أن يتمّ» مفعول به، وإنَّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب؛ لأنَّهُ في معنى النفي، فقال الأخفشُ الصغيرُ «معنى يأبَى: يمنع» وقال الفرَّاء: «دخلتْ» إلَاّ «لأن في الكلام طرفاً من الجحد» وقال الزمخشريُّ: «أجْرَى» أبَى «مُجْرى» لَمْ يُرِدْ «، ألا ترى كيف قُوبل:{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} بقوله: {ويأبى الله} ، وأوقع موقع: ولا يريد الله إلا أن يتمَّ نوره؟» .