في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ: أحدها: أنَّهُ لا يتوهم إنسان أنَّه تعالى منع محمّداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه.
وثانيها: أنه تعالى لمَّا بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات، بيَّن ههنا أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، بل وجوب الانقطاع مشروع أيضاً في دين إبراهيم؛ فتكون المبالغة في تقرير وجوبِ المقاطعةِ أكمل، وأقوى.
وثالثها: أنَّهُ تعالى وصف إبراهيم بكونه حليماً أي: قليل الغضب، وبكونه أوهاً، أي: كثير التَّوجع والتَّفجُّع عند نزول المضار بالنَّاس، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفةِ كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً؛ فكأنه قيل: إنَّ إبراهيم مع جلالة قدره، وكونه موصوفاً بالأواهية والحلمية منعه الله من الاستغفار لأبيه الكافر، فمنع غيره أولى.
قوله:» وَعَدَهَآ إِيَّاهُ «. اختلف في الضمير المرفوعِ، والمنصوبِ المنفصل، فقيل - وهو الظاهرُ - إنَّ المرفوعَ يعودَ على» إبراهيم «، والمنصُوب على» أبيه «، يعني: أنَّ إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفر له، ويؤيد هذا قراءةُ الحسنِ، وحماد الرَّاوية. وابنُ السَّميفَع ومعاذ القارئ» وعدهَا أباهُ «بالباءِ الموحَّدةِ. وقيل: المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب ل» إبراهيم «. وفي التفسير أنه كان وعد إبراهيم أنَّه يُؤمنُ؛ فذلك طمع في إيمانه.
فصل
دلَّ القرآن على أنَّ إبراهيم استغفر لأبيه، لقوله:{واغفر لأبي}[الشعراء: ٨٦] وقوله: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب}[إبراهيم: ٤١] وقال: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي}[مريم: ٤٧] وقال أيضاً {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}[الممتحنة: ٤] ، والاستغفار للكافر لا يجوز.
فأجاب تعالى عن هذا الإشكال بقوله {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} والمعنى: أن أباه وعده أن يؤمن؛ فلذا استغفر لهُ، فلمَّا تبيَّن له أنَّهُ لا يؤمن وأنَّهُ عدو لله، تبرَّأ منه. وقيل: إنَّ الواعدَ» إبراهيم «وعد أباهُ أن يستغفر لهُ رجاء إسلامه وقيل في الجواب وجهان آخران:
الأول: أنَّ المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام، وكان يقول له آمنْ حتى تتخلَّص من العقاب، ويدعو الله أن يرزقه الإيمان فهذا هو الاستغفارُ، فلمَّا أخبره تعالى بأنَّه يموتُ كافراً وترك تلك الدَّعوة.