وثانيها: أنَّ النفقات في الأقرب أقلّ، والحاجة إلى الدواب والآلات أقلّ.
وثالثها: أن المجاهدين إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد، فقد عرضوا الذراري للفتنة، وأموالهم إلى النهب.
ورابعها: أنَّ المجاورين لدار الإسلام إمَّا أن يكونوا أقوياء ضعفاء، فإن كانوا أقوياء فتعرّضهم لدار الإسلام أشدّ وأكثر من تعرض الأبعد، والشَّرُّ الأكثر أولى بالدفع، وإن كان ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل؛ فكأن الابتداء بهم أولى.
وخامسها: أن القريب يعلم أكثر من علم حال البعيد، فيكون غزوه أسهل.
وسادسها: أنَّ دار الإسلام واسعة، فإذا اشتغل أهلُ كل بلدٍ بقتال من يليهم من الكفار كانت المؤمنة أسهل.
وسابعها: أنَّهُ إذا اجتمع واجبات قدم أيسرها حصولاً.
وثامنها: ما تقدَّم من أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابتداء في الدعوة بالأقرب، وبالغزو بالأقرب، وفي جميع المهمات كذلك. حتَّى إنَّ الأعرابي الذي جلس على المائدة، وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «كُلْ مِمَّا يَليكَ» فدلت الآيةُ على أنَّ الابتداء بالأقرب واجبٌ.
فإن قيل: ربَّمَا كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح؛ لأنَّ الأبعد يقع في قلبه أنما جاوز الأقرب؛ لأنَّهُ لا يقيمُ له وزناً.
فالجوابُ: أنَّ ذلك احتمالٌ واحد، وما ذكرنا احتمالات كثيرة، ومصالح الدنيا مبنيةٌ على ترجيح الأكثر مصلحة، وهذا الذي قلناه إنَّما هو فيما إذا تعذَّر الجمعُ بين مقابلة الأقرب والأبعد وأما إذا أمكن الجمع بين الكل، فالأولى هو الجمع.
قوله:«وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ» هو من باب: «لا أرينَّك ههنا» ، وتقدم شرحه [الأنفال: ٢٥] . «غِلْظَةً» قرأ الجمهور بكسر الغين، وهي لغة أسد. وقرأ الأعمشُ، وأبانُ بن تغلب، والمفضَّلُ كلاهما عن عاصم بفتحها، وهي لغة الحجاز. وقرأ أبُو حيوة، والسُّلمي، وابنث أبي عبلة والمفضل، وأبانُ في رواية عنهما «غُلْظة» بالضَّم، وهي لغةُ تميم، وحكى أبُو عمرو اللغات الثلاث.
والغِلْظَة: أصلها في الأجْرَام، فاستعيرت هنا للشِّدَّة والصَّبر والتَّجلد قال المفسرون: شجاعة، وقيل: عنفاً، وقيل: شدة. والغلظة ضد