أنه فعل بهم ذلك ليتخلَّصُوا من العقاب المؤبد، ويفُوزُوا بالثَّواب المؤبد.
فإن قيل: لمَّا قال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} فهذا النَّسق يوجب أن يقال: رءوف رحيم بالمؤمنين، فلم ترك هذا النسق وقال:{بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
فالجواب: أنَّ هذا يفيد الحصر، أي: لا رأفة ولا رحمة إلا بالمؤمنين. فأما الكفار فليس له عليهم رأفة ولا رحمة، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التَّغليظِ، كأنَّهُ يقول: إنِّي وإن بالغت في التَّغليظِ في هذه السُّورة، إلَاّ أنَّ ذلك التَّغليظ على الكُفَّارِ والمنافقين، وأما رحمتي، ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين.
قوله تعالى:{فَإِن تَوَلَّوْاْ} يعني: المشركين والمنافقين، أي: أعرضوا عنك وقيل: تولوا عن طاعة الله وتصديق الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقيل: تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السُّورة. وقيل: تولوا عن نصرتك في الجهاد. {فَقُلْ حَسْبِيَ الله لاا إله إِلَاّ هُوَ} والمرادُ: أنَّه لا يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف؛ لأنَّ الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء. «عليْهِ توكَّلتُ» أي: لا أتوكل إلَاّ عليه: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} .
فإن قيل: العرشُ غير محسوس، فلا يعرف وجوده إلَاّ بعد ثُبوتِ الشريعةِ، فكيف يمكنُ ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى؟ .
فالجواب: وجود العرش أمرٌ مشهورٌ، والكفار سمعوه من اليهود والنصارى وأيضاً لا يبعد أنَّهُم كانوا قد سمعُوهُ من أسلافهم.
وقرأ الجمهور بجرِّ الميم من «العَظيمِ» صفة للعرش. وقرأ ابنُ محيصنٍ برفعها نعتاً للرب ورويت هذه قراءة عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم:«وهذه القراءة أعجبُ إليَّ؛ لأنَّ جعل» العظيم «صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش» وأيضاً قال «فإن جعلناه صفة للعرش، كان المراد من كونه عظيماً كبر جثته وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار وإن جعلناه صفة لله تعالى كان المرادُ من العظمة وجوب التقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض، وكمال العلم والقدرة، وكونه منزَّهاً عن أن يتمثل في الأوهام، أو اتصل إليه الأفهام» .
فصل
روي عن أبيّ بن كعب والحسن قالا: آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}[التوبة: ١٢٨] إلى آخرها. وقال أبي بن كعب: «هما