للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

لأنَّ من يريدُ أن ينظر إلى شيءٍ نظر استقصاءٍ فإنَّه يُقيم وجههُ في مقابلته بحيثُ لا يصرفه عنه؛ لأنَّه لو صرفهُ عنه، ولو بالقليل، فقد بطلت تلك المقابلة، وإذا بطلت المقابلةُ اختلَّ الإبصار؛ فلهذا جعل إقامة الوجه كناية عن صرف العقل بالكليةِ إلى طلبِ الدِّين، وقوله» حَنِيفاً «أي: مائلاً إليه ميلاً كليّاً، معرضاً عن كُلِّ ما سواه إعراضاً كلياً» .

ثم قال: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} وهذا لا يمكنُ أن يكون نهياً عن عبادة الأوثان؛ لأنَّ ذلك صار مذكوراً في قوله أول الآية: {فَلَا أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [١٠٤] فلا بُدَّ من حمل هذا الكلام على فائدة زائدة، وهي أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً، وهذا هو الذي تسميه أصحابُ القلوبِ بالشِّرك الخفيِّ. قاله ابنُ الخطيبِ.

قوله تعالى: {ولا تَدْعُ} يجُوزُ أن تكون هذه الجملة استئنافية، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة الأمر وهي: «أَقِمْ» فتكون داخلة في صلة «أنْ» بوجهيها، أعني كونها تفسيرية أو مصدرية وقد تقدم.

وقوله: «مَا لَا ينفعُك» يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، وأن تكون موصولةً.

قوله: «فإنَّكَ» هو جوابُ الشَّرطِ و «إذَنْ» حرفُ جوابِ توسَّطتْ بين الاسم، والخبرِ، ورتبتها التَّأخيرُ عن الخبرِ، وإنَّما وُسِّطتْ رعياً للفواصل. وقال الزمخشري: «إذَنْ» جواب الشَّرطِ وجوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنَّ سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان.

وفي جعله «إذَنْ» جزاءً للشَّرطِ نظرٌ، إذ جوابُ الشَّرطِ محصورٌ في أشياء ليس هذا منها.

فصل

المعنى: «ولا تَدْعُ» أي: ولا تعبد «مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُكَ» إن أطعته: «ولا يَضُرُّكَ» إن عصيتهُ «فإن فعلْتَ» فعبدتَ غير الله، أو لو اشتغلت بطلب المنفعة، والمضرَّةِ من غير الله {فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين} الضَّارين لأنفسهم، الواضعين للعبادة في غير موضعها؛ لأنَّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير وضعه.

قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ} الآية.

قوله: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ» قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام [الأنعام: ١٧] . وقال هنا في جواب الشَّرط الأول بنفي عام، وإيجاب، وفي جواب الثاني بنفي عام دون إيجاب؛ لأنَّ ما أرادَه لا يردُّه رادٌّ، لا هو ولا غيره، لأنَّ إرادتهُ قديمةٌ لا تتغيَّرُ، فلذلك لم يجىء التَّركيب فلا رادَّ لهُ إلَاّ هو، هذه عبارةُ أبي حيَّان، وفيها نظرٌ، وكأنَّهُ يقولُ بخلاف الكَشْفِ فإنه هو الفاعلُ لذلك وحدهُ دون غيره بخلاف إرادته تعالى، فإنَّهُ لا يتصوَّر فيها الوقوعُ على خلافها، وهي مسألةٌ خلافيَّةٌ بين أهل السُّنَّةِ والاعتزال.

<<  <  ج: ص:  >  >>