احتجُّوا بهذه الآية على أنه سبحانه وتعالى قد يخلقُ في المكلف ما يمنعه من الإيمان.
روي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّهُ قال: إنَّه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وفي الآخرة.
أمَّا في الدنيا ففي قوله {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} .
وأمَّا في الآخرة ففي قوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}[القلم: ٤٢] .
ثم قال تعالى:{أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ} أي: أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام.
قوله:«لا جَرَمَ» في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين، ويتلخصُ ذلك في خمسة أوجهٍ:
أحدها - وهو مذهبُ الخليل وسيبويه وجماهير النَّاس - أنََهُما رُكِّبتا من «لا» النَّافية و «جَرَم» وبُنيتَا على تركيبها تركيب خمسة عشر، وصار معناهما معنى فعل وهو «حقَّ» فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعليَّة، فقوله - تعالى -: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار}[النحل: ٦٢] أي: حق وثبت كون النَّار لهم، أو استقرارها لهم.
الوجه الثاني: أنَّ «لا جَرَمَ» بمنزلة «لا رجُل» في كون «لا» نافية للجنس، و «جَرَمَ» اسمها مبنيٌّ معها على الفتح، وهي واسمها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وما بعدها خبر «لا» النافية، وصار معناها: لا محالة ولا بُدَّ، قاله الفرَّاءُ.
الثالث: - كالذي قبله - إلَاّ أنَّ «أنَّ» وما بعدها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الجار، إذ التقدير: لا محالةَ أنَّهُم في الآخرة، أي: في خسرانهم.
الرابع: أنَّ «لا» نافيةٌ لكلام متقدم تكلَّم به الكفرةُ، فردَّ الله ذلك عليهم بقوله:«لا» كما تُرَدُّ «لا» هذه قبل القسم في قوله - عزَّ وجلَّ - {لَا أُقْسِمُ بهذا البلد}[البلد: ١] وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ}[النساء: ٦٥] وقد تقدَّم تحقيقه، ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي «جرم أنَّ لهُم كَذَا» ، و «جرم» فعل ماضٍ معناه «كسب» ، وفاعله مستتر يعودُ على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، و «أنَّ» وما في حيِّزها في موضع المفعول به، لأنَّ «جَرَمَ» يتعدَّى إذْ هو بمعنى «كَسَبَ» ؛ قال الشاعر:[الوافر]